مقالات – البوصلة https://www.albawsala.com Mon, 01 Apr 2024 10:05:02 +0000 ar hourly 1 الانتخابات “المحلية” أو مشروع الرئيس الأصلي: مسار لا سياسي وغموض قانوني أدى إلى مقاطعة واسعة https://www.albawsala.com/ar/publications/20246342 https://www.albawsala.com/ar/publications/20246342#respond Fri, 15 Mar 2024 19:17:15 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6342 انعقدت يوم الأحد 24 ديسمبر 2023 الدورة الأولى من الانتخابات “المحلية” التي تعتبر الخطوة الأولى لانتخاب المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة النيابية الثانية). تُشكّل هذه الانتخابات جوهر المشروع الأصلي الذي ينادي به الرئيس قيس سعيد منذ 2013 والذي قام بتنزيله تدريجيا منذ 25 جويلية 2021 بعد تجميده للبرلمان بتأويل متعسف للفصل 80 من دستور 2014 قبل تعليق العمل به ليمرّر عبر الاستفتاء دستور 2022 الذي صاغه بنفسه بعد استشارة صورية.

أتت هذه الانتخابات بعد أن استغل الرئيس قيس سعيد سلطة المراسيم1 لحلّ المجالس البلدية المنتخبة2 يوم 8مارس 2023 قبل شهرين أو ثلاثة من انتهاء عهدتها وثلاثة أيام قبل انعقاد الجلسة الافتتاحية لبرلمانه، ولوضع تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الأقاليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم (المرسوم عدد 10) ولتنقيح القانون الانتخابي (المرسوم عدد 8) رغم أن دستور قيس سعيد نفسه يستثني المادة الانتخابية من التشريع بالمراسيم.

تركيبة المجالس المحلية والجهوية ومجالس الإقليم والمجلس الوطني للجهات والأقاليم حسب المرسوم عدد 10 و الأوامر المكملة له لسنة 2023

المصدر: البوصلة

وقد نبهت منظمة البوصلة إلى الإشكاليات القانونية والسياسية المتضمنة بمراسيم 8 مارس3 والتي يمكن تلخيصها في غياب الصلاحيات وآليات التحكيم بين هذه المجالس، شروط ترشح إقصائية وماراثون انتخابي ناتج عن العدد الكبير للدوائر الانتخابية والقرعة كل 3 أشهر.

أبرز الإشكاليات المتعلقة بالانتخابات “المحلية”

المصدر: البوصلة (أوت 2023)

وبمرور الأشهر وبعد تكتّم السلطة على تاريخ هذه الانتخابات ما دفع هيئة الانتخابات إلى محاولات الاستباق والتخمين، لم يقع تلافي الإشكاليات القانونية المتعلقة بصلاحيات واختصاصات هذه المجالس حيث اكتفى قيس سعيد باستكمال الخطوات الشكلية لانعقاد هذه الانتخابات وهي استكمال تركيبة هيئة الانتخابات التي عرفت استقالات أفقدتها النصاب القانوني اللازم لاتخاذ قرارتها، وإصدار أمر تقسيم الأقاليم4 قبل أن يصدر أمر دعوة الناخبين للمشاركة في الانتخابات التشريعية يوم 24 ديسمبر 2023. وبهذا شهدنا حملة انتخابية لمترشحين يجهلون صلاحيات المجالس الذين سيشكلونها.

الاستنباط القانوني لمجالس دون صلاحيات

في مشهد صار يتكرر، وبعد أن نصّبت هيئة الانتخابات ولايتها الكاملة على التغطية الإعلامية للانتخابات، حشرت الهيئة نفسها في صف المفسّرين والمؤوّلين لمشروع الرئيس، فإن كانت أحيانا تتحاشى الأسئلة السياسية المحرجة وتؤكّد على اقتصار دورها على البعد التقني المتمثّل في حسن سير العملية الانتخابية فإنها ومع إصرار قيس سعيد على المضي قدما في مشروعه الغامض صارت تتطوع لسدّ ثغراته القانونية وتناقضاته العمليّة.

يكمن السبب الأساسي في غموض دستور قيس سعيد ورؤيته الاختزالية للجماعات المحلية التي لا تأخذ بعين الاعتبار جميع جوانبها القانونية خاصة إذا ذكّرنا بموقفه منها إذ يراها تهديدا لوحدة الدولة رغم ادعائه أن مشروعه مبني على تمكين المحليات.

يقتضي وضع مؤسسات تتمتع بصفة الجماعات المحلية أن تحدّد اختصاصاتها بدقة. إن الاختصاص الذي يعني قانونيا السلطة الممنوحة حسب تأهيل تشريعي لاتخاذ قرارات لها أثر قانوني في مجالات تدخّل محددة بدقة5، هو نظريا من مشمولات السلطة التشريعية ويستوجب الدقة والوضوح والمقروئية تجنبا لتنازع الاختصاصات6.

على عكس دستور 2014 الذي صنّف صلاحيات الجماعات المحلية وحدّد المبادئ التي ترتكز عليها اختصاصاتها وهي التدبير الحر والتفريع وربط الاختصاصات بالموارد7، اقتصر دستور قيس سعيد على فصل يتيم مقتضب8 في حين اقتصر تشريعه على المرسوم 10 الذي أحدث هيكلا جديدا دون تحديد اختصاصاته. هذ بالإضافة إلى إجراء “انتخابات” يتعيّن على المترشحين فيها تقديم موجز لبرنامجهم الانتخابي دون معرفة هذه الاختصاصات، ويشتمل هذا البناء على إمكانية سحب الوكالة الذي يتم في صورة لم يحترم المترشح هذا البرنامج، وهو شكل آخر من أشكال العبث.

أمام هذا الغموض، “اجتهدت” هيئة الانتخابات في استنباط حلول لسد هذا الفراغ القانوني دون جدوى حيث لا تصمد مقترحاتها أمام التحليل القانوني البسيط. فإن كان من الممكن نظريا محاولة الاعتماد على مجلّة الجماعات المحليّة لتسيير البلديات أو المجالس البلدية إن تمّ انتخابها أو المجالس الجهوية نظرا لوجود نصّ ينظمها9 فإن المجالس المحلية التي أحدثها دستور قيس سعيد وضعها أمام ورطة الفراغ القانوني التام. وهو ما جعلها تلجأ إلى تأويل غريب يتمثل في أنّ قانون المجالس المحلية للتنمية لسنة 101994 ينطبق عليها.

بقطع النظر عن عدم أهليّة الهيئة لتأويل القانون وللتدخل في مجال تحديد الاختصاصات، لا بد من التأكيد على أن هذا القول لا يستقيم على أكثر من مستوى11. فالمجالس المحلية للتنمية (قانون 1994) هي مؤسسة لامحورية (أي من امتدادت المركز) معيّنة لا منتخبة يرأسها المعتمد ودورها استشاري على عكس المجالس المحلية تماما التي تعتبر جماعات محلية منتخبة. كما أن قانون 1994 هو قانون عادي في حين يجب أن تتخذ النصوص المتعلقة بالمجالس المحلية شكل قانون أساسي حسب دستور قيس سعيد. دون أن ننسى أنّ هذا الأخير وهو المشرّع والمؤوّل الحقيقي الوحيد قد تناول أخيرا هذه المسألة وضرب عرض الحائط كلّ هذه التأويلات حيث أوضح حسب نصّ البلاغ الذي عقب لقائه برئيس هيئة الانتخابات يوم 6 مارس المنقض أن هذه المجالس المحلية والجهوية إلى جانب مجالس الأقاليم لا تنسحب عليها أحكام مجلة الجماعات المحلية كما يُروج البعض لذلك” وأضاف أن “هناك من يسعى بصفة مقصودة إلى الخلط بين المجالس الجهوية (قانون أساسي 1989) أو المجالس المحلية للتنمية (قانون 1994)…هذان الصنفان من المجالس لا علاقة لهما بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم…”12 في إحراج للهيئة ذاتها.

هيئة الانتخابات: الولاية الكاملة على التغطية الإعلامية للانتخابات

كانت التغطية الإعلامية للانتخابات التشريعية في 2022 موضوع أزمة بين هيئة الانتخابات والهايكا. حيث أعلنت هيئة الانتخابات “ولايتها الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها“ عوض أن يتم تحديد قواعد النفاذ وتغطية الحملة الانتخابية التشريعية بوسائل الإعلام والاتصال السمعي والبصري بموجب قرار مشترك مع الهايكا التي أسند إليها القانون الانتخابي (الصادر في 15 ماي 2004) هذه الصلاحية، قبل أن يلغي المرسوم عدد 8 لسنة 2023 المنقّح للقانون الانتخابي التشاور مع الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وإصدار قرارات مشتركة معها13.

”الهيئة (الهايكا) استُبعدت من مراقبة الانتخابات بسبب موقفها من الانتخابات التشريعية، حيث رفضت إمضاء القرار المشترك مع هيئة الانتخابات، واعتبرت أنّ الانتخابات تفتقر في تغطيتها إلى الحدّ الأدنى من الموضوعية، ونالت الهيئة نصيبها من الغضب عندما رفضت خرق رئيس الجمهورية للصمت الانتخابي، فكان أن أُلغي وجودها من الدستور واستبعادها وفق ذلك المرسوم“، يقول هشام السنوسي عضو هيئة الاتصال السمعي البصري لنواة، ويضيف: ”بالنسبة إلينا، نحن نراقب جميع المضامين بما فيها المضامين المتعلّقة بالدّعاية السياسية وسنراقبها وفق المعايير الموضوعية الموجودة في المرسوم عدد 116 لسنة 2011 وفي كراسات الشروط“، منبّهًا إلى أنّ سلوك هيئة الانتخابات “فيه مسّ من استقلالية وسائل الإعلام“ بما من شأنه ”أن يشكّل ضغطًا عليها“.

مناخ لا سياسي

نظريا وفي الديمقراطيات، تمثّل المواعيد الانتخابية فرصة لدفع النقاش العام نحو مشاريع وطنية مختلفة وهو الدور الذي تلعبه الأحزاب. بعد شيطنة الأحزاب خاصّة المعارضة منها وإقصائها عمليّا بالقانون الانتخابي ونمط الاقتراع على الأفراد، تدور هذه الانتخابات بمقاطعة من الأحزاب الأساسية المكونة للمشهد السياسي التونسي. بعد التدنّي الفادح لنسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية 2022، حتى الأحزاب الموالية لسلطة 25 جويلية كحركة الشعب كانت متيقّنة من حتمية فشل هذا الموعد الانتخابي ودعت إلى تأجيله.

إضافة إلى الانفراد بالرأي وتمرير قرارات مصيرية بالقوة ودون مناقشة مواطنية، عرفت الأشهر المؤديّة إلى هذه الانتخابات المحليّة تصاعدا كبيرا لوتيرة انتهاك حرية التعبير وهو ما ساهم في إفراغ الفضاء العمومي من أي نقاش سياسي حقيقي. فبعد إصدار المرسوم 54 لسنة 2022، تحوّل هذا النص إلى آلية جديدة لاستهداف الصحفيين بدل المرسوم 115 المنظّم للمهنة. حسب تقرير وحدة السلامة بالنقابة الوطنية للصحفيين تمّ خلال الفترة الممتدة بين نوفمبر 2022 وأكتوبر 2023 تسجيل 27 حالة تتبع عدلي ضد الصحفيين خارج إطار المرسوم 115 منها 7 على معنى المرسوم 54، و10 على معنى فصول من المجلة الجزائية. على سبيل المثال يمكن أن نذكر حالة الصحفية منية العرفاوي التي مثلت أمام القضاء بسبب شكايتين قدمّهما ضدّها وزير الشؤون الدينية على خلفية مقال صحفي كما أصدر القضاء التونسي حكمين بالسجن أحدهما صادر عن قطب مكافحة الإرهاب اســتئنافيا بخمس ســنوات سجن ضد الصحفي خليفة القاسمي بعد استئناف النيابة العمومية لحكـم ابتدائي بسنة واحدة سـجن ويعتبـر الحكم الأقسى خلال السـنوات العشـر الأخيرة في حق الصحفيين14.

كما تمّ استعمال هذا المرسوم و غيره من النصوص في المجلة الجزائية و مجلة الاتصالات لاستهداف حرية التعبير و ملاحقة ناشطين وناشطات و مواطنين.ات على خلفية تصريحات إعلامية أو تدوينات تندرج في إطار حرية التعبير. يمكن ملاحظة أن هذا المرسوم صار آلية مفضلة لدى مسؤولين في السلطة كالوزراء لاستهداف منظورين لهم كالنقابيين أو صحفيين تناولوا بالنقد مردودهم أو إدارتهم لمؤسساتهم كما صار أحد الآليات الذي تستعمله هيئة الانتخابات لإسكات منتقديها. فقد قامت بتقديم شكوى على معنى هذا المرسوم ضد ناشطين في المجتمع المدني بسبب تعبيرهم عن رفضهم للتقسيم الترابي الجديد في تصريحات صحفية15.

ساهم هذا الهجوم في الضغط على وسائل الإعلام والصحفيين وعودة الخوف والرقابة الذاتية، خاصة بعد أن عادت مظاهر الرقابة والخطاب الأوحد الممجّد للسلطة والتحكّم في الإعلام العمومي16. يظهر ذلك بوضوح في استبعاد القوى السياسية المعارضة من الظهور في التلفزة الوطنية وعودة ممارسات الصنصرة في هذه المؤسسة وغيرها كوكالة تونس إفريقيا للأنباء الرسمية.

لم تحاول السلطة القائمة إخفاء هذه الرغبة حيث اجتمع قيس سعيد خصيصا برئيسة مؤسسة التلفزة التونسية في مشهد مذلّ أين وبّخها بسبب حضور ضيف لم يرق له في أحد برامج التلفزة واعتبر أن العديد من البرامج التي تبثّها القناة الوطنية -فضلا عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء- “ليست بريئة”. وهو ما اعتبرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين “سابقة خطيرة لم يقدم عليها غيره”. كما انتقد في مناسبات أخرى عمل التلفزة الوطنية التي لم تغطّ حسب رأيه بما يكفي نشاط السلطة المتمثل حينها في حملة أمنية لإبعاد المهجرين والمهاجرات من ساحة باب الجبلي بصفاقس. دون أن ننسى استهدافه المباشر لبرنامج ميدي شو الإذاعي أثناء مشاركته في قمة الفرنكوفونية بجربة والذي سبق تتبّع فريق البرنامج وإيقاف مدير الإذاعة.

الترشحات

كان واضحا للجميع بعد النتائج الكارثية التي عرفتها الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 أن العدد الكبير للدوائر الانتخابية (2155) وشروط الترشح (50 تزكية) أنّ الحصول على ترشحات في جميع الدوائر يعدّ تحديا حقيقيا. أدى ذلك قبل عقد الانتخابات إلى محاولات من الهيئة لاستباق هذه الصعوبات عبر التخفيف في الشروط كعدم اشتراط التعريف بالإمضاء للتزكيات بعد أن قلّص الرئيس قيس سعيد في عدد التزكيات المستوجبة للترشح إلى 50 تزكية بطريقة اعتباطية17. كما قامت الهيئة بالتمديد في فترة قبول الترشحات بستة أيام سعيا منها لتلافي النقص المسجل في الترشحات18.

رغم ذلك، تمّ اعتبار وجود ترشحات في جميع الدوائر تقريبا إنجازا من قبل الهيئة التي تغاضى ممثلوها عن حقيقة وجود تنافس سياسي فعلي عند ملاحظة الترشحات، حيث شهدت الانتخابات 26 دائرة انتخابية بيضاء (دون مترشحين) و218 دائرة بمترشح وحيد أدت إلى انتصاره آليا. دون أن ننسى المشاركة الكارثية للنساء إذ لم تسجل سوى 13,3% من الترشحات كنتيجة لإلغاء التناصف ما أدى إلى تمثيلية كارثية للنساء في المجالس المحلية (10.19%) وهي الأضعف في جميع المواعيد الانتخابية منذ 2011

19المصدر: المفكرة القانونية وموقع الصباح (بناء على أرقام هيئة الانتخابات)

النتائج

كما كان متوقعا، ورغم كل الخطوات المتخذة من هيئة الانتخابات كالعدد المهول من الإرساليات القصيرة للمواطنين.ات والتي بلغت حدّ الهرسلة أو التسجيل الآلي للناخبين والتمديد في أوقات عمل مكاتب الاقتراع مقارنة بانتخابات ما قبل 25 جويلية، سجّلت الانتخابات نسبة مشاركة هزيلة استقرّت حسب أرقام الهيئة في حدود 11,66% وكانت أولى ردود الفعل لممثليها تبريرية عدائية. رغم أن دور الهيئة يقتصر قانونيا على حسن تنظيم العملية الانتخابية، كانت تصريحات سليم بوعسكر أشبه بالردّ على من تساءل حول مدى صحّة النسبة التي أعلنت عليها هو ما يمكن تفهّمه نظرا لغياب أي اهتمام من المواطنين والرأي العام بهذه الانتخابات، حيث لم يكن هناك أي مؤشر في الشارع التونسي على وجود انتخابات أصلا ما عدى ما كانت تبثه التلفزة الوطنية20.

هيئة الانتخابات: من ناطق رسمي باسم مسار 25 جويلية إلى فاعل أساسي في قمع الحريات

كما أشرنا، وفي مختلف محطات هذا المسار الانتخابي، كانت الهيئة ناطقا رسميا باسم خيارات الرئيس، فدافعت عن القانون الانتخابي ونمط الاقتراع وحاولت سدّ الفراغ القانوني وحتى تفسير أسباب نسب المشاركة المتدنيّة. إلا أن دورها الأخطر تمثل في تحوّلها إلى فاعل أساسي في قمع الأصوات المعارضة باستعمال أحد أدوات النظام وهو المرسوم 54 المعادي للحريات. هكذا، تمّ إضافة أحكام إضافية للسجينين السياسيين عبير موسي وجوهر بن مبارك نتيجة لشكاية قدمتها ضدهم الهيئة على معنى المرسوم 54 على خلفية تصريحاتهم الصحفية حول الانتخابات التشريعية المجراة في ديسمبر 2022.

كما استغلت “ولايتها الكاملة عن التغطية الإعلامية للانتخابات” لهرسلة موقع نواة والتضييق على عمل صحفييه حيث تلقت إدارة نواة إشعارًا من هيئة الانتخابات يوم 6 فيفري 2024 بشأن مقال نُشر على موقعها في 26 جانفي 2024، والذي تمت مشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي في 28 جانفي، يتناول القضايا السياسية والقضائية المتعلقة بالتآمر على أمن الدولة. اعتبرت الهيئة أن المقال خرق قواعد الحملة الانتخابية وواجب الحياد، وأورد أخبارًا زائفة قد تضلل الناخبين. رد فريق تحرير نواة موضحًا أن المقال كان مقال رأي يهدف إلى فتح النقاش وليس له علاقة بالانتخابات المحلية أو التشريعية، وأن الهيئة تتبع تفسيرًا خاصًا للقراءة السياسية قد يؤثر على حرية التعبير21. وقد عبّرت عديد الجمعيات في بيان مشترك22 عن تضامنها مع موقع نواة وحق صحفييه في ممارسة عملهم دون رقابة مسبقة أو تهديدات. كما اعتبرت أن هذه الخطوة تندرج في إطار قتل التداول السياسي في الفضاء العمومي وإخلاء الساحة من كل الأصوات الناقدة للسلطة الحالية.

ويبدو أن هيئة الانتخابات تنوي المواصلة في نهج تكميم الأفواه حيث قالت في بلاغ لوسائل الاعلام أنّ الفترة الانتخابية تستمرّ حتى تركيز مجلس الجهات والاقاليم في إشارة إلى استمرار “ولايتها الكاملة” ورقابة وحدة الرصد لديها على وسائل الإعلام، واستعدادها لمواصلة استعمال المرسوم 54 كسلاح ضد من يشكك في عملها.

مهازل انتخابية أخرى في الأفق

عوض الوقوف على أسباب فشل هذا المسار، تمادت السلطة في تبريره، فبعد أن تمّ اتهام السياسيين المتهمين في قضايا التآمر بتلقي الأموال من دوائر أجنبية لإفشال الانتخابات المحلية ، كرّر رئيس الدولة ما قاله بعد الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 إذ صرّح أنّ نسبة “%11 بنزاهة أفضل من 99 % مزورة” بشكل يوحي بأن عدم تزوير الانتخابات هي منّة يجب أن تشكر عليها السلطة الحالية. ورغم ذلك، يواصل الرئيس حملته الانتخابية المتواصلة بزياراته الفجئية التي تغطيها التلفزة الوطنية لساعات -بعد أن تلقّفت تنبيهاته المتكررة- تمهيدا لانتخابات رئاسية قد تجرى هذه السنة في حين توحي كل المؤشرات بأنها -إن تمّ إجراؤها- ستكون مهزلة انتخابية أخرى. حيث لا يمكن أن يشكّل إجراء انتخابات رئاسية في مناخ يفتقد لأي ضمانات لنزاهتها بقضاء تحت الترهيب، وإعلام عمومي تحت السيطرة وحرية تعبير منتهكة مع إقصاء كل المنافسين المحتملين إما بإبقائهم في السجون أو بملاحقتهم قضائيا، إلّا حلقة أخرى من حلقات العبث في هذا المسار الفردي.

إنّ هذا المشهد، إذا أضفنا إليه فشل “الحلول” الاقتصادية التي يطرحها قيس سعيد (أي الشركات الأهلية والصلح الجزائي) أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والذي أدى به إلى الاقتراض المباشر من البنك المركزي لسداد قسط من الديون، يفترض أن يشكّل فرصة أمام المعارضة الديمقراطية لإحراج السلطة وطرح بدائل جدّيّة على الشارع التونسي.

إلا أنّ القوى الديمقراطية أحزابا ومنظمات مجتمع مدني بقيت رغم ذلك في حالة من التّشرذم والإنكار. على سبيل المثال، جاءت محاولة الاتحاد العام التونسي للشغل للضغط على السلطة عبر تجمع نقابي في ساحة القصبة يوم 2 مارس متأخّرة بعد مساعيه المتكررة للحوار معها تحت سقف 25 جويلية 2021 والتي ردّت عليها بالتجاهل (مبادرة الاتحاد مرفوقا بشركائه في الرباعي صائفة 2023) وباستهدافها لدوره الاجتماعي (المنشور 20 لسنة 2021)23 وملاحقة مناضليه على خلفية نشاطهم النقابي.

من ناحية أخرى، لا تزال بعض المبادرات التي تسعى إلى تقديم مرشّح ينافس قيس سعيد تراهن على حسابات خاطئة كالأمل في أن تبادر السلطة بتنقية المناخ وإطلاق سراح المساجين السياسيين وتركيز هيئة مستقلة للإنتخابات في حين لا يرفع صاحبها الذي أعلن صراحة أنه “لن يسلم البلاد لمن لا وطنية له” سوى شعار “لا رجوع إلى الوراء”. كما أنّ مجرّد توحيد المعارضة عدديا لا يعني قدرتها على إزاحة قيس سعيد بالصندوق بقطع النظر عن مدى وجاهة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بعد مقاطعة جميع المواعيد الانتخابية التي سبقتها.

في انتظار بديل سياسي واقتصادي جدّي، يبقى الفعل المعارض الوحيد الجدير بالذكر إلى حدّ الآن -إلى جانب النضال الحقوقي “الكلاسيكي” تضامنا مع المساجين السياسيين- بعض النضالات الجزئية اجتماعية كانت أو حول مشاريع قوانين إلا أنها تبقى دون سقف سياسي قادر على تغيير موازين القوى الحاليّة.

  1. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  2. عبر المرسوم عدد 9 المؤرخ في 8 مارس 2023 القاضي ↩︎
  3. منظمة البوصلة (مارس 2023): قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي ↩︎
  4. منظمة البوصلة (أكتوبر 2023): تقسيم الأقاليم اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة ↩︎
  5. La Sorbonne, cité dans -, Thèse, Université de Paris I PontéhonLa compétence fiscale : (2016) Andreas Kallergis البكوش (2022): اللامركزية من أجل الديمقراطية قانون الجماعات المحلية ↩︎
  6. عبد الرزاق مختار: مداخلة بندوة مخبر الحوكمة (16 ديسمبر 2023) بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ↩︎
  7. تقرير منظمة البوصلة (2024): حصيلة تجربة اللامركزية في تونس: مساهمة في تقييم مرحلة الانتقال الديمقراطي. ص31. ↩︎
  8. الفصل 133: “تمارس المجالس البلديّة والمجالس الجهويّة ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلّية المصالح المحلّية والجهويّة حسبما يضبطه القانون” ↩︎
  9. أحلام ضيفي مداخلة بندوة مخبر الحوكمة (16 ديسمبر 2023) بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس ↩︎
  10. قانون عدد 87 لسنة 1994 مؤرخ في 26 جويلية 1994 يتعلق بإحداث مجالس محلية للتنمية ↩︎
  11. عبد الرزاق مختار (16 ديسمبر 2023)، تم ذكره ↩︎
  12. موقع رئاسة الجمهورية (6 مارس 2024): لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيّد مع السيّد فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ↩︎
  13. منال دربالي – موقع نواة (23 نوفمبر 2023): التغطية الإعلامية للحملة الانتخابية: ولاية مطلقة لهيئة الانتخابات ↩︎
  14. منظمة البوصلة (2024): سنة منذ منعرج الاعتقالات السياسية للمعارضة: انتهاك متواصل للحريات في ظل سلطة الفرد ↩︎
  15. كريمة الماجري – جريدة المغرب (1 سبتمبر 2023): في الوقت الذي تستعد فيه الهيئة للانتخابات المحلية: تواصل الانتقادات ورفض مكونات المجتمع المدني لتنظيمها ↩︎
  16. ياسين النابلي- المفكرة القانونية (7 مارس 2022): التلفزة التونسية وأشباح العودة إلى “توجيهات الرئيس” ↩︎
  17. منظمة البوصلة (مارس 2023(، تم ذكره. ↩︎
  18. آدم يوسف – العربي الجديد (13 سبتمبر 2023): تسهيل شروط الانتخابات المحلية في تونس: استباق ضعف المشاركة وصعوبة جمع التزكيات ↩︎
  19. تمّ ذكره في موقع جريدة الصباح (7 فيفري 2024): “الأضعف على امتداد ال13 سنة الماضية: 10.19% تمثيلية النساء في المجالس المحلية” والمفكرة القانونية، عدد 28، خريف 2023: أرقام من الانتخابات القادية: الشعب لا يريد مشروع الرئيس. ↩︎
  20. ياسين النابلي-المفكرة القانونية (23 ديسمبر 2023): انتخابات المجالس المحليّة في تونس: لماذا أصبحَت اللاّحَدَث؟ ↩︎
  21. موقع نواة – بيان بتاريخ 7 فيفري 2024: منعرج خطير في هرسلة الصحفيين والتضييق على المؤسسات الاعلامية ↩︎
  22. منظمة البوصلة ومجموعة منظمات (9 فيفري 2024- بيان مساندة لموقع نواة: الصحافة الحرّة: العدوّ الدائم للأنظمة الاستبدادية ↩︎
  23. منشور عدد 20 لسنة 2021مؤرخ في 9 ديسمبر2021 حول التفاوض مع النقابات والذي يمنع جميع المسؤولين الحكوميين من الشروع في التفاوض مع النقابات قبل الحصول على ترخيص من رئاسة الحكومة ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20246342/feed 0
سنة مُنذ حملةِ الاعتقالاتِ السياسيّة: انتهاكٌ مُتواصلٌ للحريات في ظلِّ سُلطةِ الفرد  https://www.albawsala.com/ar/publications/20246158 https://www.albawsala.com/ar/publications/20246158#respond Fri, 23 Feb 2024 15:24:19 +0000 https://www.albawsala.com/?p=6158 نشهد هذه الأيام مرور سنة كاملة منذ اعتقال عدد من المعارضين السياسيين بتهمة التآمر على أمن الدولة والذين تمّ اتهامهم من قبل رئيس الدولة بالوقوف وراء كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. إنّ هذا الموعد الذي يتزامن مع دخول عدد منهم في إضرابات الجوع، احتجاجا على تواصل مظلمة اعتقالهم دون عرضهم على المُحاكمة. في انتهاك جسيم لأبسط حقوقهم الأساسية في الدفاع. يدفعنا للتفكير في تقييم حصيلة النظام الذي وضعه رئيس الدولة قيس سعيّد في علاقة بالحقوق والحريات، خاصة بعد استكمال مؤسساته على أنقاض ما تبقى من مكتسبات التجربة الديمقراطية.

إنّ التّقييم الحقيقي لأنظمة الحكم لا يكون مُطلقا عبر تأويل النوايا والخطابات الحماسيّة المتغطية بشعارات وطنيّة شوفينيّة، والتي غالبا ما تستحضرها الأنظمة الاستبداديّة لاستخدامها كشمّاعة تُعلّق عليها إخفاقاتها. وهو تماما ما يقوم به رئيس الدولة قيس سعيّد منذ انقلابه المُؤسساتي والدستوري يوم 25 جويلية 2021 بعد أن انتقل من تجميد ونسف المؤسسات المُنتخبة والمستقلة إلى تطبيق مشروعه الفردي. أوّلا عبر دستور خطّه بنفسه استأثر بموجبه بصلاحيات واسعة، ثمّ عبر وضع أسس حكمه الفردي باستخدام المراسيم بالتوازي مع قمع الأصوات المُنتقدة لهُ والكاشفة عن قُصور رُؤاه وتصوراته السياسية.

وكمُعظم النزعات الاستبدادية الجانحة إلى الغصب والترهيب، ظلّ سعيّد مُترعا بسُلاف التوجهات والأفكار الإلغائيّة والقمعيّة في إدارة نظام الحكم، وفيّا لما تدعو إليه مُرتكزات الحكم الشعبوي والتمكين السياسي بمفاصل الحكم والدولة. فكانت بوصلته مُتجهة بالأساس نحو الإلغاء والإقصاء لجلّ الأجسام الوسيطة باعتبارها الضامن الأساسي أمام مخاطر التسلّط وتغوّل الفرد. فكانت ترسانة النصوص القمعية السابقة مُدعّمة بالمرسوم 54 لسنة 2022، أرضية لإعلان بدء موسم الإحالات والإيقافات لعدد كبير من الناشطين والناشطات السياسيين والمدنيين والصحفيين الرافضين مُنذ بزوغ فجر الاستبداد الجديد لتوجهات وسياسات صاحب المسار. لتكون سنة 2023 السنة التي أرسى فيها الرئيس دعائم نظامه واستكمل هدم مؤسسات التجربة الديمقراطيّة التي أفِلتْ بنجاحه في تركيع القضاء نهائيا بعد الإعفاءات التي طالت 57 قاضيا بطريقة انتقاميّة، حيثُ لم تُوجّه ضدّهم قرائن إدانة حقيقيّة..، كما رُفض قرار المحكمة الادارية القاضي بنقض قرار العزل في حقّ عدد منهم.

كذلك، فقد عرفت سنة 2023 مُنزلقا قمعيّا خطيرا تمثّل في التوسيع من دائرة القمع والترهيب لتشمل مختلف أطياف العائلات السياسية والحقوقيّة والمدنيّة، والتي استهلّها النظام في شهر فيفري، بملف التآمر على أمن الدول حيثُ زُجّ بعدد من الوجوه السياسية المُعارضة بالسجن بتهم خطيرة تصل عقوبتها للإعدام دون أن تُقدّم السلطات القضائية والسياسية أي دليل أو توضيح للرأي العام بخصوص هذا الملف. بل واقتصر تدخّلها فقط على تبرئة الديبلوماسيين الأجانب ومنع التداول الإعلامي في القضية.

هكذا، مثلت سنة 2023 إضافة لما عرفته من تراكم للصعوبات الاقتصاديّة وضيق الرُؤى والتصوّرات نحو التحسّن والانفراج، تجسيدا لأسس نظام قيس سعيد وتواصلا لتصفية التجربة الديمقراطيّة ومكاسبها خاصة الحريات الجماعية والفردية.

تأتي هذه المقالة، كمُحاولة للوقوف على حصيلة الانتهاكات الحاصلة خلال السنة المُنقضية (الفترة المُمتدّة بين جانفي وديسمبر 2023). ذلك لأنّ واقع الحريات في البلاد على عكس ما يّدعي رئيس الدولة في خطاباته، أصبح مُهدّدا ومُحدّد النطاق والتحرّك فقط داخل أطر سلطته وسياساته الرامية إلى التّضييق على الفضاء العام وخنق فاعلية الأجسام التعديلية الوسيطة، وترهيب كافّة الأصوات المُعارضة بفتح أبواب السجون أمامها وملاحقتها قضائيّا.

ملف التآمر على أمن الدولة: تصفية المعارضة باستعمال القضاء

عاضد سعيّد نظام حكمه بتوجّه نحو نزع البعد السياسي من الفضاء العام التداولي وجعل الدولة من خلال الأجهزة التي يُديرها ويتحكّم فيها، الكائن السياسي الوحيد الفاعل في البلاد.. مع تماهي مفهوم الدولة والشعب مع شخصه كما هو الحال لدى الشعبويين.1 فتجسّدت مُحاولة التبديد تلك عبر إلغائه لدور الأحزاب السياسية في مناسبة أولى ثم إحالة العديد من الشخصيات الحزبيّة والسياسية بتهم التآمر على أمن الدولة وارتكاب فعل موحش ضدّ رئيس الجمهوريّة. في مُحاولة منه لتحجيم الدور الذي يُمكن أن تلعبه تلك التشكيلات في المرحلة السياسية القادمة.
يرتكز خطاب قيس سعيد المُشيطن للمعارضين السياسيين على التخوين والاتهام بالتآمر والإرهاب دون أي دليل يذكر، بدا واضحا منذ 25 جويلية 2021 وما تلاه أن هذا التوجه كان نابعا من عدم تسامح الرئيس مع أي خطاب معارض لسياسته فبعد أن أفرغت الساحة السياسية -ما عدا الموالين- من كل قياداتها بين مسجون وملاحق قضائيا، انتقل خطاب الشيطنة إلى المجتمع المدني والإعلام.
إن هذا التوجّه ليس غريبا على الأنظمة الشعبوية التي تختار الحكم الفردي مع السيطرة أو نسف أو إضعاف كافة أجسام المُعارضة بمختلف تشكيلاتها، حتى لا تطفُو إلى السطح بوادر العجز والفشل وحتى يجسّد الحاكم في ذهنه حالة التماهي التي يسعى إلى خلقها بينه وبين الشعب، دون وجود لأيّ أجسام وسيطة.

إنّ النسق المتسارع للإيقافات الذي شُرع في تنفيذها منذ شهر فيفري 2023، مثّلت مُنعرجا خطيرا لواقع الحريات في تونس. حيثُ شكلت فلسفة العقاب والترهيب مُجتمعةً مع النزعة التسلطيّة للسلطة السياسيّة المشفوعة بثقافة الانتقام، فضاءً حيويّا خصبا لقمع جلّ الأصوات الحرّة والمُعارضة لحالة العبث السياسي واهتراء الإدّعاء بشعار “بمقولة الشعب يُريد” التي انكشف زيفها من خلال نسبة الاقبال الكارثية على الانتخابات التشريعيّة، وحالة الإصرار على انتهاج الخيار القمعي ضدّ المعارضة التي توجهت للتفكير في مبادرة سياسية هدفها إيجاد حلّ تشاركي يُنقذ البلاد من شبح الانهيار بعد فشل مشروع قيس سعيد السياسي الذي تمظهر في نسبة تصويت كارثية في انتخاباته التشريعية المجراة في ديسمبر 2022.

سبق يوم 11 فيفري 2023، تاريخ الشُروع في تنفيذ أولى الإيقافات لعدد من الوجوه السياسيّة المُعارضة لسياسات وتوجهات الرئيس. مُناسبتان جهّز من خلالهما سعيّد هذا القرار عبر الضغط على “الوظيفة” التنفيذية مُمثلة في رئيسة الحكومة و”الوظيفة القضائية” مُمثّلة في وزيرة العدل، أين وجّه خلال اللقاءين أصابع اتهامه إلى “أطراف تُحاول اختلاق الأزمات وبثّ الفتن والإشاعات والتآمر على الدولة والوطن“، مُحمّلا فشل سياساته الاقتصادية إلى تلك الأطراف التي تسعى جاهدة إلى “احباط مشروع حكمه الرشيد” و”عرقلة نجاحاته”.
كما سمح لنفسه خلال اجتماعه مع وزيرة العدل ليلى جفّال قبل يوم من بدء أولى الإيقافات، بأن يتدخّل مرّة أخرى في القضاء بعد أن تولّى قبل سنة تركيعه وضرب استقلاليته. حيثُ عبّر عن استغرابه من وجود من هم خارج دوائر المحاسبة بالقول بأنّ له “ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم“.

ومثل كلّ الأنظمة الجانحة نحو الاستبداد والتسلّط، سعت السلطة إلى تكييف هذه الإيقافات بتهمٍ تجعلُ من فظاعة الفعل سهل الهضم مُقارنة مع دسامة التُهم المُوجهة. لذلك كان لا بُدّ من تشويه المُعتقلين السياسيين وتوجيه أخطر التُهم لهم، عبر احالتهم بموجب الجرائم الواردة بقانون مكافحة الارهاب ومنع غسل الأموال. وبتعدّ صارخ على أبسط الحقوق والضمانات القانونية مثل آجال الاحتفاظ المضبوطة بالنسبة للإيقاف ومبدأ المواجهة بين الخصوم. حيثُ قدّمت بعض الشكايات والشهادات المُوجهة ضدّ المعتقلين السياسيين من قبل أطراف تمّ حجب هويتهم وأسمائهم.
لم يتوقّف سعيّد عند هذا الحدّ من الانتقام والتشفي، حيثُ سمح لنفسه بنصب محكمة سياسيّة قامت بإصدار حكمها قبل شُروع القضاء في النظر في هذه الملفات وصرّح بمناسبة زيارته الليليّة إلى مقرّ وزارة الداخليّة بتاريخ 14 فيفري 2023، أنّ “التاريخ أثبت قبل أن تُثبت المحاكم أنّهم مُجرمون” كما اتّهم القضاء بالتهاون والتغطية على الملفات في السابق ودعا القضاة “الشرفاء” لتحمل مسؤولياتهم مُعتبرا أنّ كلّ من “يُبرؤهم هو قطعا شريك لهم“، في تعدٍّ صارخ على قرينة براءة المتهم والحقّ في الدفاع.

كما تُعتبر هذه الزيارة دليلا إضافيا على عدم اقتناع الرئيس بمبدإ الفصل بين السلطات. وهو ما اتّضح منذ 25 جويلية 2021 حيثُ قرّر بمعيّة الإنقلاب الدستوري والمؤسساتي الذي قام به ترأس النيابة العمومية، قبل أن يتراجع تحت الضغط.
كما تأكّدت تلك النزعة نحو التسلّط والإنفراد بالحكم، صلب النظام السياسي الذي وضعه بدستوره أين أصبح يستأثر بكافة الصلاحيات دون فصل حقيقي بين السلطات التي صار يسميها “وظائف”. ويجدر بنا أن نُذكّر أيضا أنّ قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء اتّخذ خلال كلمة ألقاها رئيس الدولة من داخل مقر وزارة الداخلية ليلة يوم السبت 5 فيفري 2022 مع ما يحمله ذلك من رمزيّة تنتصر لذهنيّة دولة البوليس على حساب دولة الهياكل والمؤسسات.+

دفاعا عن الدفاع

لم يقتصر الأمر عند السجن والتنكيل بالموقوفين السياسيين داخل مُعتقلات النظام الحالي. بل امتدّت سطوة وعنجهيّة النظام إلى القيام بمُفارقات عجيبة تُنذرُ بتفشّي نطاق الاستبداد والشُروع في التصفية الجماعية ضدّ كلّ من يصطفّ في الدفاع عن المعتقلين السياسيين لقناعته بحقّ الدفاع المنصوص عليه صلب التشريعات الوطنيّة والاتفاقيات الدولية2.

المتهم.ةالصفةالتاريخالجهة الشاكيةنصّ الإحالةالسبب
العياشي الهمامي (المُثول أمام قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس والإبقاء عليه في حالة سراح، التحقيق في القضية ليزال مُتواصلا)محامي ومنسق هيئة الدفاع عن القضاة المعزولينتاريخ الشكاية: 2 جانفي 2023 تاريخ المُثول: 10 جانفي 2023وزيرة العدل (ليلى جفّال)المرسوم 54 لسنة 2022 الفصل 24تصريح إذاعي لراديو Shems FM وصف فيها طريقة التعامل مه ملف القُضاة المعزولين بالـ”مجزرة”.
عبد العزيز الصيدمحامي وعضو هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية ما يُعرف بالتآمر على أمن الدولة01 جوان 2023وزيرة العدل (ليلى جفال)المرسوم 54 لسنة 2022تبعا للندوة الصحفية التي عقدتها هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة بتاريخ 8 ماي 2023. حيثُ صرّح أنّ وزيرة العدل دلّست محاضر البحث
العياشي الهمامي (الإبقاء عليه في حالة سراح مع اتخاذ تدبير تحجير السفر في حقه ومنعه من الظهور في الأماكن العامة)محامي وعضو هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين10 أكتوبر 2023قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب استنطاقه من قبل قاضي التحقيق في القضية المُتعلقة بتكوين وفاق بغاية التآمر على أمن الدولة الداخلي
إسلام حمزة
دليلة بن مبارك مصدّق
محامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين28 و29 سبتمبر 2023الوكالة العامة لدى محكمة الاستئناف بتونس التداول إعلاميا في وقائع قضية التآمر على أمن الدولة ونسبة أمور غير صحيحة لموظف عمومي.
إسلام حمزة (الإبقاء عليها في حالة سراح على ذمة القضية)محامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيينتاريخ الشكاية: 5 ماي 2023 تاريخ المُثول: 21 جوان 2023الإدارة العامة للسجون والإصلاحالمرسوم 54 لسنة 2022حول سيارة التعذيب التي يُنقل بها المعتقلين السياسيين من السجن إلى المُستشفى للعلاج أو إلى مكتب قاضي التحقيق.
دليلة بن مبارك مصدّقمحامية وعضوة هيئة الدفاع عن المساجين السياسيين05 ديسمبر 2023الوكالة العامة بمحكمة الاستئنافالمرسوم 54 لسنة 2022خرق قرار النيابة العمومية القاضي بمنع التداول الإعلامي والخوض فيما يُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة. (***)

إضرابات الجوع: أداة النضال الأخيرة عندما تُوصدُ نوافذ الحريّة

تُشكّل اضرابات الجوع أداة يلجأ إليها المُعارضون داخل الأنظمة الاستبداديّة والديكتاتوريّة للتظلّم والتنديد بحالة القمع والظلم التي يعيشونها. أين يُصبح تعريض النفس إلى الخطر وأحيانا إلى الهلاك، الحلّ الأوحد لإحراج النظام السياسي القائم ودفعه نحو التراجع عن بعض القرارات الزجريّة أو الالتفات لبعض المطالب المشروعة.

حيثُ إنّ اتخاذ قرار خوض معركة الأمعاء الخاوية وما يستوجبه ذلك من إعداد نفسي وبدني ووعي مُسبق بخطورة خوض هذه المرحلة وانعكاساتها المستقبلية على صحّة المُضرب وما قد يُلاحقه من أمراض واضطرابات قد تُلازمه طيلة حياته. يجعل من هذا النوع من التعبير عن الاحتجاج هو الأخطر لا بالنسبة للمُضرب عن الطعام فقط، بل حتى بالنسبة للنظم الاستبدادية والديكتاتورية. حيثُ تسعى هذه الأنظمة إلى تلميع صورتها تُجاه الرأي العام الدُولي والخروج تحت عباءة تطبيقها لمعالم الحكم السويّ واتخاذ النظام الديمقراطي ديدنا في ممارسة السلطة. حتى تُجازى هذه الصورة وإن كانت ظاهريّة فقط بنوع من المُباركة والحماية الدوليّة وتُشفع ببعض المُساعدات التي تضمن ديمومة نظام الحكم.

في تونس، شهدنا خلال الآونة الأخيرة ارتفاعا كبيرا لوتيرة اضرابات الجوع التي شملت عديد القطاعات، ونُفّذت في عديد المواقع. (اضراب جوع المعتقلين السياسيين داخل السجن، اضراب جوع الصحفي خليفة القاسمي داخل السجن، اضراب المحامي مهدي زقروبة داخل مقر عمادة المحامين، إضراب القضاة المعفيين بمقر جمعية القضاة التونسيين، إضراب جوع عائلات المعتقلين السياسيين وأعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الحرّ تضامنا مع رئيسة الحزب عبير موسي…) وهنا نلحظ تنوّع اضرابات الجوع بين ما هو مطلبي، تنديدي وتضامني، وتعدّد كذلك للمُتدخلين فيه. وذلك بهدف احراج السلطة السياسية ومنع جُنوحها أكثر نحو القمع والاستبداد.
إلّا أنّ رئيس الدولة لم يُحرّك ساكنا تُجاه هذه الفضيحة السياسية التي ستُحاصر أسوار نظام حكمه العاجز حتى على ايجاد حُلول للمطالب المشروعة الرافضة لسياسات التعسّف على القانون والشيطنة التامّة لكلّ من يُعارض المسار السياسي الفردي للرئيس. حيثُ ردّ خلال جولة ليليّة قام بها بتاريخ 4 أكتوبر إلى شارع الحبيب بورقيبة ومحطة القطارات بجبل جلود، على إضرابات الجوع داخل المعتقل السياسي بالقول: “… إنّ خصوم الأمس توحّدوا اليوم…” “…هناك من كان يصفُ خصمه بالسفّاح في السابق (يقصد راشد الغنوشي) واليوم أصبح يُسانده ودخل في إضراب جوع تضامنًا معه…” “…حتى في فرنسا هناك من أضرب عن الطعام… وفي الحقيقة لا وُجود لإضراب جوع كما يدّعون…” فعوض بحثه عن حلول تُنقذ مساره السياسي الذي أصبح محلّ وصم وتشكيك لتراكم العجز والفشل داخله ومُعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخانقة بخطابات الشيطنة والتخوين، يُواصل الرئيس في ممارسة فلكلوره السياسي بخطابات تعكس حالة من الصبيانيّة السياسية التي تجعل من اضرابات الجوع وما يحوم بها من خطورة بالغة، محلّ تهريج خطابي.

التاريخالمضرب/بينالصفةمكان إضراب الجوعالسبب
22 جانفي 2023حمادي الرحماني
رمزي بحرية
محمد الطاهر الكنزاري
قضاةمقرّ جمعية القضاة التونسيين3 قضاة معفيّين دخلوا للمرة الثانية في اضراب جوع احتجاجي بمقر جمعية القضاة التونسيين. للتصدّي للانتهاكات الحافة بقرار رئيس الجمهورية بعزل 57 قاضيا بموجب أمر رئاسي. ** القاضي محمد الطاهر الكنزاري تقدّم بقضية بتاريخ 23 جانفي 2023، ضدّ وزيرة العدل ليلى جفّال مُتّهما إيّاها بعدم امتثالها للقانون.
13 ماي 2023الصحبي عتيققيادي بحركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةمُودع بالسجن بموجب قضية تتعلّق بغسيل الأموال. دخل إثر إيقافه بـ 3 أيام في اضراب جوع. 
– احتجاجا على أنّ الواشي تراجع عن أقواله وادّعى أنّه لا يذكُر شيئا، لكن قاضي التحقيق رفض إطلاق سراحه. (وقع نقله إلى العناية المركزة)
23 ماي 2023مهدي زقروبةمحاميمقر الهيئة الوطنية للمحاميناعتصام واضراب جوع تنديدا بفتح بحث تحقيقي ضده على معنى المرسوم 54 لسنة 2022، من قبل وزيرة العدل بعد اثارته لمسألة تضارب المصالح ضدّها
10 جوان 2023أحمد المشرقيرئيس مكتب حركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع احتجاجي  تنديدا بعمليّة احتجازه منذ 18 أفريل 2023 دون استنطاق أو توجيه تُهم له.
17 أوت 2023ريان الحمزاويرئيس المجلس البلدي المُنحلّ بالزهراءالسجن المدني بالمرناقيةاحتجاجا على الايقاف التعسفي والغير مبررفي حقه، والخرق الواضح للاجراءات التي رافقت ملفه. 
صدر في حقه بطاقة ايداع بالسجن بتهمة التآمر على أمن الدولة بموجب وشاية ضده أقرت بأن له علاقة وطيدة مع مديرة الديواني الرئاسي السابقة نادية عكاشة (دخل في غيبوبة بعد 7 أيام من دخوله في اضراب الجوع بعد تدهور حالته الصحية)
26 سبتمبر 2023جوهر بن مباركقيادي بجبهة الخلاصالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع دفاعا عن مطلب المعتقلين السياسيين بإطلاق سراحهم ** فكّ إضراب الجوع الخمسي 12 أكتوبر إثر زيارة وفد من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان نتيجة بداية دهور حالته الصحية. (دام اضرابه عن الطعام 16 يوما)
29 سبتمبر 2023راشد الغنوشيرئيس حركة النهضةالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع تضامني لمدّة 3 أيام. تضامنا مع القيادي في جبهة الخلاص جوهر بن مبارك. دفاعا عن مطلب كلّ المعتقلين السياسيين بإطلاق سراحهم ورفع المظلمة عنهم. ** حُكم عليه بتاريخ 15 ماي بسنة سجن بتهمة تمجيد الإرهاب. (***)
2 أكتوبر 2023عصام الشابي
عبد الحميد الجلاصي
غازي الشواشي خيّام التركي
رضا بلحاج
المعتقلين السياسيينالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع  احتجاجا على تواصل المهزلة القضائية التي تتذرّع بيها السلطة لحرمانهم من حريتهم طيلة أشهر عديدة دون تقديم أيّ دليل على الاتهامات التي تمّ توجيهها لهم. المطالبة بإنهاء المظلمة المُسلّطة عليهم والافراج عنهم.
5 أكتوبر 2023عائلات المعتقلين السياسيين مقرّ الحزب الجمهورياضراب جوع تضامني مع المعتقلين
25 أكتوبر 2023خليفة القاسميصحفيالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع احتجاجي على سوء المُعاملة داخل السجن وايداعه داخل زنزانة مع محكومين في قضايا ارهابيّة.
 عبير موسيرئيسة الحزب الدستوري الحرّسجن النساء بمنوبةإضراب جوع على امتداد أيام حملة 16 يوم من النشاط لمناهضة العنف ضدّ المرأة في تونس. انتهاكات جسيمة لحقوقها الأساسية في الحريّة والصحّة والنشاط السياسي والانتماء الفكري.
10 نوفمبر 2023أعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الحرّحزب سياسيمقرّ الحزباضراب جوع تضامني مع رئيسة الحزب لمدّة 48 ساعة كحركة احتجاجية للتنديد بالمظلمة المُرتكبة في حقّ رئيسة الحزب عبير موسي.
10 ديسمبر 2023عصام الشابي
غازي الشواشي خيام التركي
جوهر بن مبارك
عبد الحميد الجلاصي
رضا بلحاج
المعتقلين السياسيينالسجن المدني بالمرناقيةاضراب جوع رمزي بمناسبة احياء الذكرى 75 للإعلان العالمي لحقوق الانسان. وذلك: للتنديد بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على أهالي غزّة. تنديدا بالانتهاكات الخطيرة والمُتصاعدة لحقوق الانسان بتونس. تنديدا بالاحتجاز القسري والمحاكمات على معنى المرسوم 54 لسنة 2022.

توسّع دائرة الانتهاكات والتضيّيق على الحريات

لم تتوقّف الانتهاكات والإعتداءات في حقّ الفاعلين.ات السياسيين والمدنيين في التعبير عن آراءهم تُجاه سياسات حكم الرئيس الجانحة نحو الاستبداد والتسلّط، في حدود ملف التآمر على أمن الدولة. بل اتّسعت رقعة الترهيب والقمع لتشمل العديد من الوجوه السياسية ورجال الأعمال والحقوقيين والنشطاء المستقلين… وبالرغم من تنوّع صفات وانتماءات المُتهمين، إلّا أنّ العديد منهم يتّحدون في السبب الدافع إلى الإيقاف وهو نقدهم لسياسات حكم الفرد أو طرحهم لبدائل سياسية عمليّة لإنقاذ البلاد من الوقوع في الاستبداد.

تمّت خلال سنة 2023 احالة ما يزيد عن 29 شخص من بينهم حوالي 19 ناشطا سياسيا بتهم مُتنوعة من بينها التآمر والتخابر مع جهات أجنبيّة. وهي من بين التُهم الخطيرة، والتي تترتب عنها عقوبات جزائيّة صارمة. هذا ما يُكسي طابعا سياسيّا ساخرا لهذه المُحاكمات التي كشفت عن نيتها المُتجهة نحو الإنتقام والتشفي. وهو ما يتّضحُ لنا من خلال التلاعب بالإجراءات وعدم احترام حقّ الدفاع والآجال المسموح بيها في الاحتفاظ. إلى جانب غياب أيّ مُعطى جدّي أو مُصارحة حقيقية للرأي العام بخصوص جديّة هذا الملف، بالتوازي مع تبرئة النيابة العمومية جميع الديبلوماسيين الأجانب المُعتمدين بتونس وتنزيههم عن التورّط في تهمة التآمر3 بعد أن تولّت بنفسها في السابق إدراج أسماءهم وصورهم صلب ملف القضيّة.
إنّ هذا التراجع يستوجب منطقيّا تراجُعا في القضيّة برمتها اعتبارا لانتفاء الفعل المُجرّم. إلّا أنّ السلطة السياسية لا تزال مُتعنّتة تأبى التراجع والاعتذار عن قضيّة تمّت فبركتها بهدف الانتقام والترهيب فقط. حيثُ تمّ الزجّ بالقضاء بعد تركيعه من قبل رئيس الدولة، لاستصدار بطاقات الإيداع والأحكام الزجريّة ضدّ المعارضين والنشطاء والفاعلين السياسيين والمدنيين.

هذا وقد تمّ اقحام العديد من الأطراف داخل سلّة المرسوم 54 لسنة 2022، حيثُ لاحظنا إحالة لعدد من شباب الأحياء الشعبيّة وطلبة المؤسسات الجامعيّة ومواطنين دون انتماء أو نشاط سياسي أو مدني على معنى فُصول هذا المرسوم رغم عدم مُعارضة العديد منهم لسياسات الرئيس وعدم اهتمام البعض الآخر بتقلبات الوضع السياسي في تونس والأزمات المُتتالية التي تُعاني منها منظومة الحكم القائمة.
إن هذه المعطيات تؤكّد إذا ما أضفنا إليها الانخفاض القياسي في نسبة المشاركة في مختلف محطات مشروع الرئيس (الاستشارة، الانتخابات التشريعية وحتى الاستفتاء) أنّ الرأي العام لا يدعم مشروع الرئيس السياسي على عكس ما يدّعيه المناصرين له.

إنّ السعي الدائم للسلطة السياسية نحو إلغاء الأجسام الوسيطة هو بمثابة إلغاء نتاج قرنين من التطوّر الذي عرفته الديمقراطية الحديثة4. حيثُ لا يُمكن الحديث قطعا عن الديمقراطيّة في غياب للأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والنقابات.
كما تتّسم الأنظمة الشعبوية عند محاولتها التمكّن بأجهزة الدولة وفرض نفوذها وسيادتها، إلى استغلال القوانين والتعسف عليها لتمرير مشاريعها التسلطيّة5. وهو ما فعله قيس سعيد بتعسّفه في قراءة الفصل 80 من دستور 2014 وحلّه للبرلمان والحكومة، وتطويع قانون حالة الطوارئ بطريقة كان الهدف منها هو منع النشاط السياسي للأحزاب وغلق مقراتها. حيث تمّ بموجب قرار صادر عن وزير الداخليّة كمال الفقي منع الاجتماعات بمقر حركة النهضة وجميع مكاتبها داخل التراب التونسي، فضلا عن منع الاجتماعات في مقرّ جبهة الخلاص بالعاصمة وذلك استنادا إلى الفصل 7 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ. في هجوم واضح على حرية العمل السياسي عبر تسليط القمع الأمني ضدّه. في مشهدٍ يتماهى مع ما كانت عليه الأوضاع ما قبل ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي.

خاتمة

بقدر ما تحملنا جُرعات الأمل المُتبقية إلى أنّ نكسة الديمقراطيّة وضرب مكاسب الحريات في عهد الرئيس قيس سعيّد لن تعدُو عن كونها سحابة عابرة في تاريخ البلاد المُكثّف، ستنقشعُ بمجرّد انقضاء الزمن السياسي لحكم الفرد. إلّا أنّ شُيوع خطابات التخوين والوعيد المُوجّهة ضدّ النُخب السياسيّة والمدنيّة، يبقى عاملا مُحدّدا في تعكّر وضع الحريات في تونس ينضاف إلى نجاح الرئيس في إحكام قبضته على القضاء والجهاز التنفيذي. مع ترجمة نزعته التسلطيّة صلب نصوص تشريعية جديدة تنضاف إلى النصوص القانونية الزجريّة السابقة، إخماد أصوات الحقّ الصادحة بقيم الديمقراطيّة وبمكاسب ثورة الكرامة التي ضحّى في سبيل إقرارها جُموع التونسيين والتونسيات.
هنا يُطرح التساؤل عن الثمن الباهظ الذي سندفعه مُقابل استرداد البلاد من براثن العبث وإعادة بناء مؤسساتها الديمقراطية من جديد بعد هدمها من طرف سلطة قمعية ماضية نحو إعادة الاستبداد، أضحت تعتمدُ على الخوف و التخوين كأداة للحكم والتسلّط.

  1. Notion « d’homme-peuple », Pierre Rosanvallon, Le bon gouvernement, éd. Le seuil, 2015. ↩︎
  2. مثال: المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان المؤرخ في 10 ديسمبر 1948، والمادة 14 من الإعلان الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.  ↩︎
  3. وفقا لبلاغ صادر بتاريخ 1 أفريل 2023 عن النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب. ↩︎
  4. المولدي قسّومي، الصّراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى 2023، ص 574. ↩︎
  5. Nadia Urbinati: “Populism and The Principle of Majority” in The Oxford Handbook of Populisme, (ed, Kaltwasser CR, Taggart P, Espejo PO and Ostiguy P), 2017.   ↩︎
]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20246158/feed 0
مقترحُ تنقيحِ مرسوم الجمعيّات: نحو إتلاف آخر مكاسب التجربة الديمقراطيّة https://www.albawsala.com/ar/publications/20235888 https://www.albawsala.com/ar/publications/20235888#respond Tue, 05 Dec 2023 17:56:27 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5888 تُمثّل مكانة المجتمع المدنيّ ضمن رؤية الدّولة ونظام الحكم فيها تجسيدا لإحدى حالات الفَرْزِ بين النّظم الدّيمقراطيّة والنّظم الاستبداديّة، وذلك إمّا عبر مساع دائمة لنسف هذه الأجسام الوسيطة ومنعها من التّمَأْسس والتّنظّم كي لا يتسنّى لها إنجاز مهامّها الرّقابيّة والمواطنية وحتى الاحتجاجية في مواجهة محاولات الانحراف بالنّظام السّياسيّ، أو عبر دعم وجودها وتوفير كافّة الظّروف الملائمة للرّقيّ بمهامّها حتّى تتوفّر لها كافّة شروط المراكمة الفعليّة في سبيل دعم مكاسب الدّيمقراطيّة.

وفي هذا السياق، مثّل المرسوم 88 لسنة 2011 1 الذي صاغته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي الإطار القانوني لتنظيم تكوين ونشاط الجمعيات في تونس عوضا عن القانون المُنظّم لها قبل الثورة 2، وذلك استجابة للحدث التاريخي الهامّ الذي جاءت به الثورة التونسية والمُتمثل في خلق فضاء حقيقي للحرية والديمقراطية للتصدّي إلى كافة محاولات العودة إلى الاستبداد والتفرّد بالسلطة من جديد. وليكون هذا المرسوم مطبوعا بنفس تحرّري رسّخ حريّة تكوين الجمعيات وممارستها لنشاطاتها. 3
ساهم هذا البعد التحرري في ارتفاع عدد الجمعيات من 9600 جمعية سنة 2011 إلى 24.922 سنة 2023. حيثُ يُترجم هذا الارتفاع الهام إرادة المواطنين والمواطنات في المشاركة الفعليّة والفعّالة في اتخاذ القرارات والمُساهمة في مختلف المجالات التنموية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية.
إلّا أن هذا النص قد عرف مُحاولاتٍ عدّة لتنقيحه من قبل السلطة التنفيذيّة كمحاولة لكبح جماح هذا الهيكل الرّقابي والتّعديليّ والحدّ من الازعاج الدائم الّذي يمارسه تُجاه السلطة والجهاز التنفيذي التابع لها.
لكن تبقى محاولة التنقيح الأخيرة هي الأخطر على الإطلاق، والمُتمثّلة في مقترح قانون4 تمّ عرضه على برلمان الرئيس لتتمّ إحالته على لجنة الحقوق والحريات بتاريخ 12 أكتوبر 2023 للنّظر فيه ومناقشته قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة النهائية.

مقترح القانون الجديد: نحو غلق نهائيّ لقوس الديمقراطية

تتجلى محاولات ضرب الجمعيات في تونس من خلال حجم وخطورة التغييرات الواردة على مقترح القانون الجديد مقارنة بالضمانات التي تمّ التنصيص عليها صلب نصّ المرسوم 88 الذي احترم في صياغته المعايير الدولية المتعلقة بحريّة تكوين الجمعيات5، حيثُ يُمكن تلخيص الهدف من هذا التنقيح في الجُنوح الواضح نحو إطلاق يد الإدارة والسلطة التنفيذية على مختلف المستويات قصد تغليف محاولات التضيّيق والخنق تُجاه الجمعيات بروح من الرّقابة والحماية المغشوشة. 
تتمثّل الخطورة الأولى الواردة بنصّ المُقترح، في محاولات ضرب مبدأ استقلالية الجمعيات عبر حذف عبارة “والحفاظ على استقلاليّتها” الواردة بالفصل الأوّل من المرسوم 88 الذي يضبط أهدافه ومجال ضماناته. وقد تمّت ترجمة هذه النّزعة التسلطية الرامية إلى الخنق والتضييق المُحكم على العمل الجمعيّاتي في العديد من الفصول اللاحقة في مقترح القانون، إذ نجد في الفصل 6 التّنصيصَ على تبعيّة كلّ جمعية لوزارة معيّنة حيثُ تُضبط عملية التوزيع انطلاقا من اختصاص كل جمعيّة.  على سبيل المثال أن تُتبع الجمعيّات الناشطة في المجال البيئي لوزارة البيئة والجمعيات الناشطة في مجال الصحّة لوزارة الصحّة… وتُوكل لهذه الوزارات مهام الإشراف والرقابة على أنشطة تلك الجمعيات حيث يمنحُ الفصل 23 للوزارة المختصة الحق في “التأكد من مطابقة أعمال الجمعيات للقانون حسب نوعية نشاطها” وهو ما يمثّل شكلا من الرقابة الهيكلية التي لا نجدها إلا في الدكتاتوريات، أما في دولة القانون، لا يمكن أن تمارس الرقابة منطقيا إلا من قبل الأجهزة الرقابية المختصة أو القضاء.  

وبهذا الشكل فإنّ الرقابة القبليّة واللاحقة على الجمعيات من قبل وزارة الإشراف سيحدّ من الدور الموكول لها (أي الجمعيّات) والمُتمثّل خاصة في مُراقبة أعمال الحكومة وتقديم المُقترحات الضروريّة بهدف الارتقاء بنشاطها وتحقيق المصلحة العامة، مع العمل على الحدّ من محاولات الانحراف والتسلّط، فقد اضطلعت الجمعيات طيلة فترة الانتقال الديمقراطي بدور أساسي في دفع المواطنين والمواطنات للاهتمام بالشأن العام من خلال انخراطهم صلبها ومُمارستهم لأعمال الرقابة والمُشاركة في أنشطة المؤسسات والهياكل العمومية سواء منها المركزية مثل الوزارات والهيئات… أو الجهوية والمحلية مثل البلديات والمندوبياّت التابعة للوزارات. وذلك عبر مطالب النفاذ إلى المعلومة والمراقبة المواطنيّة للتخطيط وتنفيذ المشاريع. 

كما ادّعى مقترح القانون الجديد المحافظة على نظام التصريح الذي أقرّه المرسوم 88 في إجراءات الإعلان عن الجمعيات، لكن في الواقع نلاحظ أنّ نظام التسجيل المُقترح يمنح سلطة تقديريّة واسعة للإدارة المعنيّة بالعلاقة مع الجمعيات برئاسة الحكومة لتعطيل عمليّة إنشاء الجمعية قانونيا لمدّة شهر من تسلّم التصريح (الفصل 9-2) وهو ما يعطيها عمليا صلاحية رفض التأسيس. كذلك منحت الفقرة 3 من الفصل 9 صلاحيّة الإدارة في تقديم عريضة إلى القضاء المُختصّ للفصل في مطلب إبطال الإعلان دون أن ينصّ الفصل على ضرورة تقديم حُجج أو أسباب لهذا الطلب. وهو ما سيجعل من هذه الصلاحية سلاحا يُستعمل لتعطيل انشاء الجمعيات وسلطة مُشطّة قد تُستعمل أيضا بهدف التعسّف والتشفي. 

 مع الاعتماد على نظام ترخيص مقنّع6 بخصوص الجمعيات الوطنيّة، أقرّ مقترح القانون الجديد نظاما قائما على الترخيص بالنسبة للمنظمات الأجنبية. حيث نصّ مقترح القانون على ضرورة حصول المنظمات الأجنبية على ترخيص صادر من وزارة الشؤون الخارجية يُمكّنها من انشاء فروع لها في تونس (الفصل 6) ، على أن يُسند هذا الترخيص بصفة مؤقتة أو أن يقع تجديده بصفة دورية مع إمكانية سحبه بموجب قرار وفي أي وقت كان (الفصل 20). وهو ما يتعارض مع ما جاء في تقرير المُقرّر الخاص المعني بالحق في حرية التجمّع السلمي والحق في حرية تكوين الجمعيات، ماينا كياي، حيثُ أقرّ بضرورة أن تخضع فروع الجمعيات الأجنبية لنفس “إجراءات الإشعار” بالنسبة للجمعيات الوطنية باعتبار أنّ هذا الإجراء هو الأفضل امتثالا للقانون الدولي لحقوق الانسان من “إجراء التصريح المُسبق” الذي يقتضي الحصول المُسبق على موافقة السلطات لإنشاء الجمعية ككيان قانوني7. إنّ مثل هذا الإجراء يُعتبر محاولة واضحة المعالم للضّغط على المنظمات الأجنبية واخضاعها لأساليب الضغط في صورة عدم الرضا على نشاطاتها أو قراراتها. وكذلك محاولة للضغط غير المباشر على الجمعيات المحليّة بخنق مصادر التمويل في صورة قيامها بنشاط لم يرُق للجهاز التّنفيذي في الدولة. كما يتعارض حتى مع موقف الدولة التونسية بعد 25 جويلية8 بمناسبة ردّها على المراسلة الصادرة عن المُفوضية السامية لحقوق الإنسان حول طلب تقديم ملاحظات بخصوص ما ورد في البلاغ المُشترك الصّادر عن مكتب الإجراءات الخّاصة لمجلس حقوق الإنسان والمُتعلقة بفحوى مشروع تنقيح المرسوم 88 لسنة 2011، أين أشادت بضرورة المُحافظة على نظام التصريح في تكوين الجمعيات الوطنية وفروع المنظمات الدوليّة مُعتبرة إيّاه مبدأ لا يجوز التراجع عنه9
نصّ الفصل 6 على أن هذه المنظمات الأجنبيّة تخضع للرقابة والإشراف في نشاطاتها للإدارة العامة برئاسة الحكومة، وبالتالي فإنّ هذه المنظمات تخضع أيضا لسلطة الجهاز التنفيذي مثلها مثل الجمعيات. 
هذا النظام تمّ استجلابه من القانون المُنظّم للجمعيات الذي سبق المرسوم 88 10، والذي كان ينصّ في فصله 17 على أنّ تكوين أي جمعية أجنبية ونشاطها لا يُمكن أن يكون إلّا بعد تأشيرة قانونها الأساسي من طرف كاتب الدولة للداخلية مع إبداء رأي كاتب الدولة للشؤون الخارجيّة. كما يُمكن أن تُمنح هذه التأشيرة بصفة مؤقته أو أن يقع تجديدها بصفة دوريّة حسب مقتضيات الفصل 19 من نفس مقترح القانون. وهنا نستوضِحُ النزعةَ التسلطيّة التي استلهمها مقترح هذا القانون عبر رفضه لما تمّ تكريسه صلب المرسوم 88 الذي صيغت مختلف أحكامه بالروح التحرريّة التي أحدثتها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011، واستحضارِ نصّ صاغته أيادي الاستبداد والتسلّط. وهو ما نتبيّنه كذلك من خلال توسيع نطاق العقوبات في الفصل 22 من مقترح القانون ليشمل أشخاصا قد لا تكون لهم أي دراية بالمخالفات التي يمكن أن تقترفها المنظمات الأجنبية، مثل النشاط دون رخصة، إذ عادة ما يكون المشاركون في نشاط الجمعيات أو بعض المتصرفين فيها على عدم عِلْم مُسبق ببعض الإجراءات والقرارات الإدارية المُتخذة، وبالتالي فإنّ وضعهم تحت طائلة العقوبات المقررة في هذا الفصل فيه نوع من التجنّي لغياب عنصر القصد أو المشاركة في اقتراف هذه الأفعال، ما لم يكن الهدف من ذلك هو التشفيّ والانتقام منهم لمجرّد الانتماء لتلك الجمعيات وهو ما يُحيلنا إلى المُمارسات الاستبداديّة زمن حكميْ بن علي وخاصة بورقيبة، حيثُ كان النظام وقتها يُلاحق ويسجُن المُعارضين بتهمة الإنتماء لجمعيات غير مُرخّص لها للنشاط.  

نَصَّ مقترح القانون المعروض على أنظار لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب على أنّ النشاط صلب الجمعيات وجب أن يكون نشاطا تطوعيّا، أي دون مقابل ماديّ. وهنا لا بدّ أن نذكر أن تطور العمل في الجمعيات ليأخذ شكلا احترافيا و تقنيا يمثّل ظاهرة عالمية يمكن مناقشة إيجابياتها و سلبياتها، إلا أنّ السّعي إلى منعها تماما لا يمكن أن يندرج إلا في إطار رغبة السلطة في إضعاف و إسكات جميع الأصوات المقلقة و الناقدة لممارساتها.   

كما نطرح من جهة أخرى تساؤلا حول مدى الفهم المُسبق لما تُوفّره منظمات المجتمع المدني من مواطن شُغل وإدماج للمتخرّجين الجُدد من المؤسسات الجامعية خاصة أمام ضعف طاقة الدّولة التشغيلية ووجود العديد من القطاعات الأكاديمية على هامش رؤيتها في برامج التّشغيل. حيث يتراءى لنا هنا دور منظّمات المجتمع المدني ومساهمتها في تحقيق السلم الاجتماعي عبر إدماج خرّيجي هذه القطاعات وتوفير مواطن شغل لعدد كبير منهم في مجالاتها المختلفة. إذ رغم عدم توفر معطيات دقيقة لدى مؤسسات الدولة حول عدد العاملين والعاملات بالجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، يكفي أن نذكر عدد المنتفعين بعقود الخدمة المدنية والتطوعية لدى الجمعيات الذي بلغ 168600 بين 2011 و2019 حسب الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل11 ليتبين لنا قدرة الجمعيات على استيعاب اليد العاملة والتخفيف من حدّة البطالة.  

تُمثّل عقود الخدمة المدنية لدى الجمعيات إحدى الآليات التي تعتمدها الدولة في سياستها المحفّزة للتشغيل (البرامج النشيطة للتشغيل) وهو ما يبرز جهل أصحاب هذا المقترح بالسياسات العمومية للدولة ويجعلنا نشك في مدى جديته. فكيف لمقترح قانون ينظم نشاط الجمعيات أن ينصّ (في فصله الثاني) على أن العمل فيها تطوعي في الوقت الذي تنظّم فيه الدولة آلية تشغيل لدى الجمعيات؟   

من ناحية أخرى، تُساهم هذه الفئة النشيطة في دعم الصناديق الاجتماعية من خلال اشتراكاتهم الشهرية، مع المساهمة في دعم ميزانية الدولة عبر دفع الضرائب وتوفير العُملة الصّعبة حيثُ قُدّر حجم التحويلات من العملة الصعبة المُتأتية من التّمويل الأجنبيّ المُقَدّم في إطار التعاون الدولي، بما لا يقل عن 68 مليون دينار سنة 2017 و78 مليون دينار سنة 201812

كما نستقي من مقترح هذا القانون إحدى المُحاولات الأخرى والمُتعدّدة للتّضيّيق على الجمعيات وضرب حريّة نشاطها في التخفيّ بتعلّة الإرهاب باعتبارها جريمة بالغة الخطورة ولها تشعبات مُعقّدة ومُركّبة، واستعمال ذلك كحجّة للضّغط والتّضييق على الجمعيات من خلال التنصيص صلب الفصل 24 من مقترح القانون على صلاحية رئاسة الحكومة في حلّ الجمعيات ذات الخلفية أو الشبهة الإرهابية بصفة آلية. وهنا نرى سطوة السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة القضائية واستعمال مجرد الشبهة كشرط لحل الجمعية. 
سيكون هذا الفصل بمثابة أداة للتهديد والضغط على الجمعيات التي ستحاول ممارسة دورها الرقابي بكل حرية لتصحيح أو نقد بعض السياسات الحكومية.  

علاوة على ذلك، لا وجود لأيّ حاجة تُبرّر استحداث هذا الفصل، حتى أنّ الحجة القائمة على القول بأن المرسوم 88 يساهم في تغذية الارهاب ماليا سرعان ما تتهاوى. فقد أقرت مجموعة العمل المالي الدولي في أحدث تصنيفاتها أن تونس تُعتبر من بين الدول “الممتثلة تماما” في خصوص منع تمويل الجمعيات للإرهاب وتبييض الأموال. كما أن بلادنا تُعتبرُ، وفقا لهذه التصنيفات ولتأكيد المقرر الأممي، من بين أفضل خمس تشريعيات دولية في هذا المجال. 

من جهة أخرى، فإن القانون الأساسي عدد 26 المؤرخ في 7 أوت 2015 (والّذي تم تنقيحه سنة 2019) والمتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال، ساري المفعول في علاقة بشبهات تمويل الجمعيات للإرهاب. كما أن الأحكام والضوابط والقيود المتعلقة بالمحاسبة العمومية ومختلف العمليات المالية تسري كذلك على الجمعيات بوصفها ذوات معنوية خاضعة للتشريع المالي والجبائي الوطني. 

حيثُ أكّدت مديرة ديوان رئيس الحكومة بمناسبة الجلسة العامّة المُخصّصة للنظر في مهمة رئاسة الحكومة في مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024، أنّ القضاء أصدر أحكاما تتعلّق بحلّ 69 جمعيّة من جملة 266 وقع طلب تعليق نشاطها وذلك لشبهة تلقيها أموالا مشبوهة13. وهو ما يُؤكّد توفّر الآليات اللازمة صلب القوانين المُنطبقة والمرسوم 88 بخصوص الرقابة على الجمعيات ومُساءلتها وتسليط العقوبات اللازمة عليها عند الاقتضاء. 

حاول مقترح القانون إضفاء قناع زائف عبر إحداثه صلاحيةً جديدةً للجمعيات لم نر لها وجودا في السابق، وتتمثّل في صلاحيّة استصدار العرائض الشعبية والطلبات التشريعية: وهو إجراء جديد جاء به مقترح هذا القانون، إلا أنه وجب علينا أن نسُوق ملاحظة متمثلة في الشّرط التعجيزي في إصدار الطلبات التشريعية التي تستوجب جمع نصف مليون توقيع مواطن أو توقيع ألفي جمعية (2000). وهنا نطرح تساؤلا عن إمكانية بقاء هذا العدد من الجمعيات في تونس في ظلّ وجود أحكام تضييقية على نشاطها.  

يتمثّل الهدف الواضح من وراء مقترح القانون المنظِّم للجمعيات في مزيد إطلاق يد الإدارة لفرض التّضييقات على الجمعيات والمنظمات دون أن تكون هنالك أي خطة واضحة أو مُستحدثة في مقترح هذا القانون لمراقبة التمويل الأجنبي ومنع التهرب حسب السرديات المُهيمنة. بل لم تحضر سوى الأحكام المتعلقة بالتضييق والرقابة على الأنشطة ومحاولات توسيع الحق في إلغاء وجود الجمعيات أحيانا دون اللجوء إلى القضاء للفصل فيها. 

حتى أنّ التعلّل بحجّة التمويل الأجنبي وضرورة منعه استنادا إلى الادّعاء أنّ الجمعيات تستغلّ هذه الموارد لخدمة الأجندات الأجنبيّة ودعم الإرهاب هو تصوّر نابع من جهل عميق بالتشريعات الوطنيّة ومجال عمل وتدخّل الجمعيات والمنظمات في تونس. حيثُ إنّه وإلى جانب المرسوم 88 المنظم للجمعيات كنص إطاري، فإنّ مجال نشاط الجمعيات مُغطّى بعدّة قوانين أخرى مُكمّلة ومُتمّمة للمرسوم، تتمثل هذه القوانين أولا في القانون عدد 52 المؤرخ في 29 أكتوبر 2018 والمتعلق بالسجل الوطني للمؤسسات. وللتذكير، فقد تمّ سنّ هذا القانون بناء على توصيات من مجموعة العمل المالي GAFI والتي صنّفت تونس سنة 2017 ضمن القائمة السوداء للبلدان التي يُمكن أن تكون أكثر عرضة لتبييض الأموال وتمويل الارهاب. ولئن كان إدراج المؤسسات والشركات بمختلف أصنافها أمرا معقولا، فإنّ إدراج الجمعيات في هذا السجل – الذي من المفترض أن يشمل حصرا المؤسسات كما تشير تسميته – رافقه العديد من التساؤلات والرفض من قبل بعض النواب في المجلس التشريعي الأسبق ومكونات المجتمع المدني. وفي هذا التوجه نفسه، عبّر المقرر الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات حينها عن استغرابه من هذا الإدراج غير المنطقي مُؤكّدا أنّ المرسوم عدد 88 يمثل إطارً قانونيا كافيا ويستجيب للمعايير الدولية الكافلة لحرية التنظّم14.  

أمّا على المستوى المؤسساتي، يمكن تقسيم الهياكل والمؤسسات المتدخلة في النشاط الجمعياتي الى صنفين رئيسين:  

– هياكل إدارية تتمثل أساسا في الإدارة العامة للجمعيات والإدارة العامة للعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني والسجل الوطني للمؤسسات بوصفة مؤسسة عمومية غير إدارية ووزارة المالية والبنك المركزي وبالخصوص لجنة التحاليل المالية صلبه.  

– هياكل قضائية تتمثل في المحكمة الابتدائية بتونس الّتي أسند لها المرسوم 88 صلاحية حصرية تتعلق بالتنبيه والحلّ. إضافة إلى الدور الكلاسيكي للمحكمة الإدارية فيما يخصّ مختلف المسائل المتعلقة بالشأن الإداري ومحكمة المحاسبات المتخصّصة في المسائل المالية.  

من الواضح إذن أنّ الإطار القانوني والمؤسساتي لتنظيم الجمعيات في تونس يتميّز بتعدّد النصوص والهياكل وتكامل الأدوار بينها من خلال تخصّص كل هيكل في جانب مُحدّد. هذا التكامل يجعل من مختلف مراحل دورة حياة أي جمعية، تأسيسا ونشاطا ورقابة واضمحلالا – خاضعة بالضرورة الى الأحكام القانونية الخاصة بها.  
وبالتالي فإنّ أي نَقْص أو تجاوز يتمّ رصده من الأجدى أن تتمّ مُجابهته عبر تفعيل آليات الرقابة التي يُنظّمها المرسوم 88 لسنة 2011 وتحسين عمل لجنة التحاليل المالية وإدارة البنك المركزي ومزيد تدعيم لجان المراقبة برئاسة الحكومة والترفيع من عدد الموظفين صلبها، حيثُ أنّه وبالرجوع إلى مهمّة رئاسة الحكومة ضمن ميزانية الدولة لسنة 2023 نرى أنّ عدد الأعوان صلب الإدارة العامة للجمعيات والأحزاب السياسيّة هو 23 عونا، في الوقت الذي يُناهز فيه عدد الجمعيات الموجودة 20 ألف جمعيّة.15 

إنّ الهدف من مقترح هذا القانون إذن هو الرغبة الجانحة في استهداف الجمعيات وضرب لأحد الأعمدة المهمة في الرقابة والمساءلة لأعمال السلطات العمومية ولا وُجود لأيّ نيّة صادقة تهدف لحماية السيادة الوطنيّة واستقلاليّة القرار الوطني مثلما ادّعت وثيقة شرح الأسباب المُرافقة لنصّ مقترح القانون، خاصة وأنّ نفس مُموّلي الجمعيات في تونس هم مُمولون وشركاء للهياكل والمؤسسات العموميّة التابعة للدولة بهدف انجاز المشاريع في إطار التعاون الدولي. 
ويُمكن أن نُشير هنا لما جاء في مشروع قرار مجلس حقوق الإنسان في دورته الثالثة والخمسون بخصوص الحيّز المُتاح للمجتمع المدني16 ومن الطريف أنّ تونس كانت من بين مجموعة الدول التي بدأت سنة 2021 في الإشتغال على صياغة مشروع هذا القرار ومن بينها الشيلي وإيرلندا. وقد شدّد مشروع هذا القرار على العديد من النقاط في خصوص حماية الفضاء المدني، لعلّ أهمّها والذي يتناقض بصورة صريحة مع ما تمّ اقراره بمقترح القانون المتعلق بتنظيم الجمعيات، هو التشديد على ضرورة عدم فرض قيود غير مُبرّرة على تمويل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني مع التنصيص على الحقّ في حرية تكوين الجمعيات والقدرة على المُشاركة الفعّالة والمُجدية في عمل المنظمات الوطنيّة والإقليمية والدوليّة. 
حثّ مشروع هذا القرار أيضا الدُول على ضرورة تهيئة وصون بيئة آمنة وتمكينية عبر وضع قوانين وسياسات مُلائمة، يُمكن من خلالها أن يعمل المجتمع المدني في جوّ خالٍ من العوائق وانعدام الأمن، وهو ما سيُمكّن الدُول من الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الدوليّة القائمة في مجال حقوق الإنسان، حيثُ أنّ غياب هذه البيئة الآمنة سينعكسُ سلبًا على قيم المُساواة والمُساءلة وسيادة القانون مع ما يُمكن أن يترتّب من آثار على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي.17 

كما ورد في إجابة الدولة التونسية بخصوص البلاغ المشترك الصادر عن مكتب الإجراءات الخّاصة بمجلس حقوق الإنسان والمتعلقة بفحوى مشروع تنقيح المرسوم عدد 88 لسنة 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيّات، العديد من المُغالطات والمُخاتلات من بينها اعتبار أنّ المرسوم 88 لم ينصّ على ضرورة إعلام الكاتب العام للحكومة بالتغيّيرات التي تطرأ على الهياكل المُسيّرة للجمعيات وهو ما قد يتسبّب في عدم معرفة المُسيّرين بعد مرحلة التأسيس، كذلك الإعلام بالجلسات العامّة العاديّة والخارقة للعادّة والإنتخابيّة والإستثنائيّة إلى جانب التقارير الأدبيّة والمالية بصفة دوريّة وفقا لأنشطتها الأساسيّة. 
إلّا أنّ الفصل 16 من المرسوم 88 فرض ضرورة أن يُعلم مُسيّرو الجمعية الكاتب العام للحكومة عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ بكلّ تنقيح أُدخل على نظامها الأساسي في اجل أقصاه شهر من تاريخ اتخاذ قرار التنقيح ويقع إعلام العموم بهذا التنقيح عبر وسائل الإعلام المكتوبة وعبر الموقع الإلكتروني للجمعية إن وُجد. كما أنّ الباب السابع من المرسوم ضبط في العديد من الفصول اجراءات وآليات مراقبة موارد الجمعيات وحساباتها على أن تُرفع تقارير الحسابات المُنجزة من قبل مُراقب الحسابات إلى الكاتب العام للحكومة. كما تمّ التنصيص على ضرورة أن تحتفظ الجمعية بوثائقها وسجلاتها المالية لمدّة عشر سنوات، وهو ما يضمن بقاء الأثر لتتسنى امكانية التتبّع حتى بعد مرور عديد السنوات. وهو ما يدحضُ الإدّعاء القائم على أنّ المرسوم 88 يفتقرُ إلى آليات الرقابة اللازمة على مُستوى التكوين والنشاط والموارد الماليّة. 

سياق سياسي مُلائم للمرور بقوة 

دون مبالغة، يُعتبر مرسوم 88 المُنظّم للجمعيات أكثر نص قانوني عرف مُحاولات مُتعدّدة لإعادة النظر فيه منذ سنة 2016. غير أنّ ما يُميّز هذه المُحاولة هو السياق الذي تتنزل فيه، إذ لا يُمكن فهم التغييرات الجذرية المقترحة دون تنزيلها في سياقها السياسي 

تعيش البلاد منذ 25 جويلية 2021 إلى حدود اليوم حالة من العبث القانوني والسياسي، فبعد المرور بقوة واستعمال الفصل 80 في غير محله لتجميد البرلمان المنتخب ثمّ تعليق العمل بالدستور بموجب الأمر 117 من قبل من أقسم على احترامه، لا يمكن اعتبار وضع دستور جديد وعقد انتخابات تشريعية خروجا من حالة “الاستثناء” حيث واصل قيس سعيّد نسف جلّ مكتسبات البناء الديمقراطي من هيئات مستقلة سواء عبر إلغائها بالقوّة أو ضرب استقلاليتها من خلال تغيير تركيبتها بأشخاص مُوالين له. 
 
وفي هذا الإطار يُمكن أن نستعرض بعضا من إجراءات النّسف والإلغاء التي قام بها رئيس الجمهورية، حيثُ وإثر تجميده ثم حلّه للمؤسسة التشريعية المنتخبة، تولى إلغاء نشاط الهيئة الوطنية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ثم حلّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يليها حلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بمجلس مؤقّت تولى بنفسه تعيين تركيبته وإصدار النصّ القانوني المُنظّم له، إضافة الى التغيير الجذري لتركيبة مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الذي أفقدها “استقلاليتها”. 
 
إنّ هذه الخطوات تعكس إرادة رئيس الجمهورية في القطع الأعمى والجذري مع ركائز المشهد الدستوري والمؤسساتي القائم منذ سنة 2014 (أو حتى قبله في ما يتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات)، وهو تمشّ ما انفك يتأكد شيئا فشيئا خاصة في علاقة مع السلط المضادة مهما اختلفت طبيعتها (دستورية، عمومية، قضائية) والأجسام الوسيطة (جمعيات، إعلام، أحزاب سياسيّة…) الواقعة تحت وطأة الترهيب والتشويه المُمنهج من قبل الرئيس، حيثُ نراه لا يُفوّت أي مناسبة للتعريج عليها ليصمها بمختلف عبارات التخوين والعمالة وتحميلها الفشل السابق وحتى اللاحق الناتج عن سياساته الفردانيّة. حالة المواجهة المباشرة تلك بين السلطة السياسية والمجتمع المدني تُؤدي في غالب الأحيان إلى تغلّب أحدهما على الآخر، لكنّها لا تُؤدي مطلقا إلى تغلّب الديمقراطيّة18
 
في هذا الإطار العام، يمكن لنا فهم النظرة العدوانية تجاه المجتمع المدني حيثُ وصف رئيس الجمهورية الناشطين.ات فيه في خطاباته بأنهم ” عملاء” يرتمون في “أحضان الخارج ” لأنهم ” امتداد لقوى خارجية “. فالرئيس ماض في مشروعه الذي يحمله منذ الثورة والقائم على هدم كل ما هو قائم دون أي محاولة للتقييم الموضوعي بهدف تثمين الايجابيات وتجاوز النقائص والحدود. فاعتقاده راسخ وجازم بفساد كامل المنظومة السابقة له، بل وأنّ الضرورة التاريخيّة والشرعيّة تكمُن في الهدم وإعادة البناء حسب إرادته الفردانيّة ورغبته في دخول التاريخ.  

 
وبالرغم من إمكانية التحاجج بأنّ هذا المقترح عُرض من طرف عدد من النواب الذين تمّ انتخابهم من قبل الشعب ومناقشته داخل المُؤسسة التشريعيّة، وبالتالي فإنّ مُرور هذا المقترح والمُصادقة عليه بعد نقاشه صلب اللجنة المعنية بالنظر وصلب الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب سيجعل منه قانونا يكتسي نوعا من المشروعيّة، 
إلّا أن برلمان الرئيس بصيغته الحالية لن يعدُو أن يكون أكثر من مكتب للتأشير بالقبول على قرارات السلطة التنفيذية الخاضعة لأهواء وتصوّرات رئيس الجمهورية. بل إنّ عقول جلّ “الوظائف الدستوريّة” تشتغل ضمن أطر براديغمات السلطة العليا في البلاد. حيثُ نلتمسُ من عبارات مقترح قانون تنظيم الجمعيات بصمة الرئيس ونفسه العُدواني السّاعي وراء إلغاء الأجسام الوسيطة والعودة بالحياة السياسية إلى طور الدولة الأوليّة التي ارتبطت بالشكل النّطفي المُبكّر جدّا للعقد الاجتماعي الذي يسعى إلى تحويل الشعب إلى ما يُشبه الوحدة السياديّة بين يديْ القائد ورهن تصرّف عقله السياسي19. وهذا ما يتراءى لنا واقعيّا من خلال ترجمة خطابات الشيطنة التي شنّها الرئيس على منظمات المجتمع المدني في العديد من المناسبات لعلّ أهمّها تعامله العنصري ضدّ المهاجرين.ات الأفارقة -جنوب الصحراء واتّهام الجمعيات المُدافعة عن حقوقهم وكرامتهم الإنسانية بخدمتها لأجندات خفيّة تسعى إلى دعم توافدهم بهدف تغيير التركيبة الديمغرافية للشعب التونسي، في تبنّ واضح لأطروحات أقصى اليمين الأوروبي العنصرية، و جهل كامل بالتركيبات الديمغرافيّة التاريخية لسكّان شمال إفريقيا وتجاهل لأدنى ركائز حقوق الانسان في أبعادها الكونيّة والشمولية. 
 
إنّ نقطة الالتقاء الوحيدة بين المرسوم عدد 88 ومقترح القانون المعروض على أنظار برلمان قيس سعيد هو ترجمتهما للسياق الذي تنزّلا فيه، نفس تحرّري للأول، وتمشّ تسلطي للثاني. وهو ما يعكسُ عموما الفرق بين السياقين السياسيين، سياق ديمقراطي وتشاركي وسياق استبدادي وشعبوي.



  1. مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلّق بتنظيم الجمعيات ↩︎
  2. قانون عدد 154 لسنة 1959 مؤرخ في 7 نوفمبر 1959 يتعلق بالجمعيات. وقد تمّ تنقيح هذا القانون في مناسبتين: 
    الأولى بمقتضى القانون الأساسي عدد 90 لسنة 1988 المؤرخ في 2 أوت 1988. والثاني بمقتضى القانون الأساسي عدد 25 لسنة 1992.  ↩︎
  3. Hafidha Chekir : L’importance et les acquis du décret-loi 88 : Emancipation de la liberté de constituer des associations. PCPA-Soyons Actifs/Actives (2017). ↩︎
  4. مقترح قانون أساسي عدد 027/2023 يتعلق بتنظيم الجمعيات. ↩︎


5  تقرير المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي والحق في حرية تكوين الجمعيات، ماينا كياي، الأمم المتحدة – الجمعية العامة، صفحة 18 – 25. 

6 حافظ مقترح القانون شكليا على نظام التصريح إلا أن الإجراءات التي فرضها تجعله نظام ترخيص مقنع 

7 Rapport du Rapporteur spécial sur le droit de réunion pacifique et la liberté d’association, MAINA KIAI, Conseil des droits de l’homme, Vingtième session, page 16.

8 إجابة الدولة التونسية حول البلاغ المشترك AL TUN 4/2022 المؤرخ في 19 أفريل 2022 والصادر عن مكتب الإجراءات الخاصّة بمجلس حقوق الإنسان، صفحة 9.

9 Mission permanente de la République tunisienne à Genève : Réponse de l’Etat tunisien à la communication conjointe AL TUN 4/2022 du 19 avril 2022 émanant du bureau des procédures spéciales du Conseil des droits de l’homme, Page 5

10 القانون عدد 154 لسنة 1959 مؤرخ في 7 نوفمبر 1959 يتعلق بالجمعيات، الفصل 17: “لا يُمكن لأيّ جمعيّة أحنبية أن تتكوّن أو تقوم بأيّ نشاط بالبلاد التونسيّة إلّا بعد تأشيرة قانونها الأساسي من طرف كاتب الدولة للداخليّة وإبداء رأي كاتب الدولة للشؤون الخارجيّة.” 

11 التقرير السنوي لنشاط الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل (2019) 

12  أنظر تقرير محكمة المحاسبات لسنة 2021. 

13 إذاعة موزاييك أف أم- مقال صادر بتاريخ 20 نوفمبر 2023: مديرة ديوان رئيس الحكومة: تحديد 272 جمعية مشبوهة.  

14  Hafidha Chekir, Projet de loi sur les associations, lecture critique, Nawaat, 15/02/2022. 

15  ميزانية الدولة لسنة 2023، مهمّة رئاسة الحكومة، صفحة 80. 

16 Human Rights Council, 53 session, 19 June – 14 July 2023, Agenda item 3, Promotion and protection of all human rights; civil; political; economic; social and cultural rights; including the right to development, Civil society space A/HRC/53/L.13.

17 مرجع سبق ذكره، صفحة 3. 

18  ألان توران، ماهي الديمقراطية؟ حكم الأغلبيّة أم ضمانات الأقليّة، ترجمة حسن قبيسي، دار السّاقي، الطبعة الثالثة، بيروت 2016، صفحة 60. 

19  المولدي قسّومي، الصّراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري، منشورات دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2023، صفحة 574. 

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20235888/feed 0
تقسيم الأقاليم: اختزال انتخابي ضيق لتحديات تنموية عميقة https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235838 https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235838#respond Fri, 13 Oct 2023 17:08:09 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5838
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [489.55 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235838/feed 0
100 يوم منذ تنصيب مجلس نواب قيس سعيد: غياب للشفافية وحصيلة هزيلة https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235735 https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235735#respond Mon, 03 Jul 2023 16:31:12 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5735
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [386.68 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235735/feed 0
قراءة أولية في مراسيم 8 مارس 2023: قتل المواطنة باسم البناء القاعدي https://www.albawsala.com/ar/publications/20235710 https://www.albawsala.com/ar/publications/20235710#respond Fri, 31 Mar 2023 14:25:19 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5700
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [553.49 KB]

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20235710/feed 0
قانون الماليّة 2023: أيّ مشروعيّة لقانون اللّحظات الأخيرة؟ https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235607 https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235607#respond Wed, 04 Jan 2023 10:18:38 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5607
Loader Loading…
EAD Logo Taking too long?

Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [1.12 MB]

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20235607/feed 0
نظام الاقتراع على الأفراد: الرئيس يُريد؟ https://www.albawsala.com/ar/publications/20225476 https://www.albawsala.com/ar/publications/20225476#respond Thu, 03 Nov 2022 12:43:12 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5476

اقترن الحقّ في الانتخاب مع ظهور الفكرة القائلة بأنّ الحكومات الديمقراطيّة هي الوحيدة التي يُمكن اعتبارها حكومات ذات مشروعيّة. خاصّة إثر التطوّر التاريخي الذي عرفه الاقتراع العام الذي كان مُنحصرا في القدم لصالح الفئات المُتفوّقة اجتماعيّا من النُبلاء والعلماء، ليشمل في بداية هذا التطوّر جميع الشرائح الاجتماعية من الرجال، فيتمّ تعميمه فيما بعد على النساء. إثر الـتأكيد المُتدرّج تاريخيّا على مبادئ المساواة والفرديّة وعموميّة الحقوق السياسيّة.
يمتزج الاقتراع العامّ اليوم مع سيادة الشعب، ليُصبح المُعبّر الأساسي عن المُساواة بينهم. حيثُ تمّ الانتقال من تنظيم اجتماعي تفاضلي إلى تنظيم اجتماعي بديل يقوم على المُساواة بين جميع الأفراد[1]. ليتمّ فيما بعد تطوير هذا الحقّ وبلورته بما يتماشى مع الفلسفة السياسيّة والاجتماعية للدُول ومطامح الطبقات السياسيّة الحاكمة.

تندرج العمليّة الانتخابية التي تتضمّن مجموعة القواعد القانونيّة والإجرائيّة التي تُؤدّي بصفة أساسيّة إلى اختيار الحُكّام من قبل المحكومين، ضمن ما يُسمى بالقانون الانتخابي.

ويُشكّل القانون الانتخابي مجموعة القواعد التي تُعرّف بصفة الناخب وتُبيّن نظام الاقتراع المُعتمد، وتتولى أيضا ضبط طريقة القيام بعمليّة التصويت[2] وتقسيم التراب الوطني إلى دوائر انتخابيّة واعتماد طريقة لتوزيع المقاعد (توزيع المقاعد حسب الأغلبيّة أو حسب التوزيع النسبي).

وبالرغم من تأكيد البعض عن الدور الذي يلعبه القانون الانتخابي في ترجمته لنظام الحكم الذي تمّ اقراره في وثيقة الدستور إلى آليات عمليّة تُسمى نظام الاقتراع، لتكون القاطرة نحو إقرار نظام الحكم وتنزيله واقعيّا. إلّا أنّ هذه العلاقة ليست بمثل هذه المُباشرتيّة، فالنظام السياسي يُمكن له أن يتأقلم مع أكثر من نظام اقتراع. في حين يُؤثّر خيار نظام الاقتراع المُعتمد في المنظومة السياسيّة بصفة عامّة، وحتّى في النظام السياسي نفسه. ومن هنا نستخلص إحدى الأهمّيات البارزة لنظم الاقتراع وتأثيرها على النُظم السياسيّة.

على مُستوى الأدبيات السياسيّة، يُعدّ النظام الانتخابي آليّة رئيسيّة تتحكّم في كيفيّة اشتغال مُؤسّستيْ السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة، مهما كانت طبيعة نظام الحكم المُعتمد ومهما كانت اختصاصات كلّ منها المضبوطة بمنطوق الأحكام الدستوريّة.[3] أمّا على المُستوى التطبيقي – العملي، فإنّ ضمان حسن الاختيار لنظام الاقتراع الأنسب لنظام الحكم قد يُؤدي أحيانا إلى ضمان تركيز مؤسسات الحكم في الدولة على الوجه الصحيح والمطلوب، وبالتالي إلى خلق نسبي للاستقرار والنجاعة السياسيّة المرجُوّة.

لذلك ارتأينا من خلال هذا المقال التحليلي الوقوف عند إيجابيات وسلبيات نظام الاقتراع الذي تمّ اعتماده بعد سنة 2011، ومُقارنته من حيثُ الجدوى والمضمون مع نظام الاقتراع الذي أقرّه رئيس الجمهوريّة. وذلك قصد دفع النقاش الفكري والسياسي للوقوف عند مواطن النقص ومُختلف الإخلالات التي تضمّنها المرسوم الانتخابي الجديد.

المحطات الكُبرى في تنزيل القانون الانتخابي

في تونس، وبعد سقوط نظام بن علي إثر انتفاضة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011. طالب المُحتجون في اعتصام القصبة 1 بالقطيعة النهائيّة مع مؤسسات الحكم القائمة في فترة الاستبداد وانهاء وجودها المادي والقانوني، والذهاب نحو انتخاب مجلس وطني تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد للبلاد ووضع نظام حكم يتلاءم مع متطلبات الثورة.[4]

تولّت حينها الهيئة العُليا لتحقيق أهداف الثورة مُهمّة الإعداد لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، عبر تركيز لهيئة مُستقلة للانتخابات والإعداد لقانون انتخابي جديد. خاض حينها أعضاء الهيئة نقاشات ماراطونيّة نظرا لتباين الآراء والمواقف صلبها حول نظام الاقتراع الأنسب للانتخابات.

وحيثُ أنّ جلّ الأدبيات السياسيّة كانت ترتكزُ حول نظامين أساسيين هما نظام الاقتراع على القائمات، ونظام الاقتراع على الأفراد، إلى جانب النظام المُختلط. فإنّ الاتفاق داخل مجلس الهيئة العُليا لتحقيق أهداف الثورة تمحور حول الإقرار بنظام الاقتراع على القائمات، مع توزيع المقاعد باعتماد التمثيل النسبي مع احتساب أكبر البقايا ودون اعتماد عتبة انتخابيّة.[5]

ساهمت عمليّة الاتفاق حول هذا النظام الانتخابي -الاقتراع النسبي على القوائم باعتماد قاعدة أكبر البقايا ودون التنصيص على عتبة انتخابيّة- إلى افراز مجلس وطني تأسيسي تعدّدي ومُتنوّع، وهو ما فرض قليلا من التواضع السياسي لدى الحزب الفائز بأغلبيّة المقاعد البرلمانية ودفعه نحو إيجاد تحالفات سياسيّة، والذهاب نحو التوافق مع مُختلف الفاعلين، حتى يضمن المُصادقة على القوانين وحسن سير العمل داخل المجلس. وهو ما حقّق نسبيّا مبدأ التشاركيّة وقلّص من امكانيّة التغوّل والانفراد بالقرار في رسم وبناء معالم نظام الحكم الجديد.

لكن مثلما ذهب مُعظم الدارسين والمُحلّلين للنظم الانتخابية إلى أنّ جلّ طرق الاقتراع غير مُحايدة بطبيعتها[6]، وأنّ وُجود نظام انتخابي نمُوذجي يكون صالحا لكافّة الديمقراطيات أمرٌ مستحيل، حيثُ أنّ فلسفة الاختيار يجب أن تقوم على دراسة مُعمّقة وشاملة للطبيعة السوسيولوجيّة، الديمغرافيّة، الجغرافيّة والثقافيّة للدُول، والتصوّر القائم لنظام الحكم فيها. فإنّه وبالقياس على ذلك، ذهب البعض إلى اعتبار أنّه لا يُمكن لنا الاعتماد على نظام انتخابي وُضع لمُقتضيات المرحلة التأسيسيّة وسحبه على مرحلة الحُكم والبناء. إلّا أنّ نُواب الشعب وقتها خيّروا الإبقاء على نفس النظام الانتخابي.[7]

قد يُفسّر هذا الابقاء بالفترة العصيبة التي مرّت بها البلاد في تلك المرحلة، وما اتّسمت بها من احتدام للصراعات السياسيّة والهوويّة وسواد حالة عدم الاستقرار السياسي وعودة الناس إلى الشارع قصد التصدّي لمحاولات الانحراف بمكتسبات الثورة. وبالتالي وجدت الترويكا الحاكمة نفسها في حالة غليان ومُعارضة من خارج أسوار البرلمان، عزّزت صُفوفها منطق الهُواة الذي أديرت به البلاد وقتها. فكان خيار حركة النهضة الإبقاء على نظام الاقتراع لكونه خدمها في فترتيْ التأسيس والحكم، حيثُ أنّ استحالة تشكّل أغلبيّة برلمانية حاكمة تقُود السلطة التشريعية والحكومة همّش إحدى أهمّ ركائز الديمقراطيات وهي المُحاسبة السياسيّة.

باعتبار أنّ توزّع إدارة الحكم بين أكثر من حزب أزاح عنها تحمّل مسؤوليّة نتائجه، وهو ماعبّرت عنه العديد من قيادات الحركة التي تقلّدت مناصب سياسيّة عُليا في تلك الفترة ردّا على النقد اللاذع الذي وُجّه لهم خلال فترة توليهم حكم البلاد، مُعتبرين أنّ الشعب التونسي لم يُمكّنهم من الأغلبيّة المطلوبة للحكم.

طالب العديد من الخُبراء والفاعلين السياسيين بضرورة تنقيح القانون الانتخابي وادراج عتبة انتخابية تُمكّن الحزب الفائز من تنفيذ برنامجه الانتخابي الذي نال على أساسه ثقة الناخبين، وتضمنُ في نفس الوقت مشهدا سياسيّا مُتنوّعا تلعبُ فيه المُعارضة دورا هامّا في التنسيب وتعديل كفّة الحُكم. إلّا أنّ جميع مُحاولات الإصلاح باءت بالفشل نتيجة الذهاب إليها إمّا لمُعاقبة الخُصوم السياسيين أو لمزيد تدعيم مكانة الحزب الفائز.

ليتولى رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد الشروع تدريجيّا في نسف أولى مُكتسبات البناء الديمقراطي الجديد، عبر تجميده لعمل البرلمان في مُناسبة أولى ثمّ حلّه، والشُروع في التأسيس لمرحلة سياسيّة جديدة اختار الذهاب إليها بتصوّر أقصى فيه جميع الأطراف السياسيّة والمدنيّة المُطالبة بتقديم اجابات واضحة وقطعيّة حول وجاهة النظام السياسي الذي ينوي رئيس الجمهورية تنزيله واقراره في مسار فردي. ليتولى إثر سنّه دستور جديد للجمهورية التونسية بعد تعليقه للدستور الذي سنّه المجلس الوطني التأسيسي، اصدار مرسومه الانتخابي المُنقّح والمُتمّم للقانون الأساسي المُتعلّق بالانتخابات والاستفتاء.

إنّ الهدف وراء هذا السرد الذي قُمنا من خلاله بالوقوف عند بعض أبرز المحطّات السياسيّة التي تمّ فيها النقاش أو المبادرة لإصدار أو تنقيح القانون الانتخابي. هو دحض للتوجّه الذي يرمي من خلاله مُنتسبيه إلى حصر القوانين الانتخابيّة في الحقل القانوني الصرف، واعتباره تقنية لتنظيم الانتخابات وتوزيع المقاعد. مُتجاهلين في ذلك أنّ عمليّة اختيار نُظم الاقتراع تخضع في العديد من الأحيان إلى نقاش فكري وسياسي عميق يُتناول فيه مُختلف الجوانب السوسيولوجية والثقافية والسياسيّة وأحيانا الهوويّة في الدُول لمعرفة أي نظام اقتراع يكون مُلائما لها.

نظام الاقتراع السابق، الإخلالات والإصلاحات المُمكنة

نصّ الفصل 107 من القانون الأساسي المُتعلّق بالانتخابات والاستفتاء[8] على أنّه: “يُجرى التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد في مُستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا.” ويعتمدُ نظام التصويت على القائمات حزبيّة كانت أو مُستقلّة أو ائتلافيّة بالتمثيل النسبي بأكبر البقايا، في حُصول القائمة المُترشحة على عدد من المقاعد في البرلمان يُعادل قيمة المقعد في الدائرة الانتخابيّة المُترشّح فيها. على أن تُوزّع بقيّة المقاعد في تلك الدائرة والتي لم تُوزّع على أساس الحاصل الانتخابي، باعتماد قاعدة أكبر البقايا.

ضَمِن هذا النظام الانتخابي الذي سنّته هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وأقرّ الإبقاء عليه من قبل المجلس الوطني التأسيسي أثناء صياغته للقانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء سنة 2014، اكساء الفضاء السياسي التونسي بتعدديّة حزبيّة هامّة تُعبّر عن مُختلف قناعات وأفكار الشعب التونسي. مع توسيع حقّ الترشّح لطيف كبير من التشكّلات السياسيّة سواء منها الحزبيّة أو المُستقلّة، وتحقيق لمبدأ التمثيل السياسي وحريّة التعبير السياسيّة.

كذلك فإنّ عمليّة الانتخاب على القوائم جعلت من طبيعة العلاقة بين الناخب والمُترشّح علاقة سياسيّة تقوم على مدى وجاهة برنامجه الانتخابي وقدرته في الإجابة على إشكالات الواقع وإيجاد تصوّرات وحلول لها. وهو ما يرتقي بالعمليّة الانتخابيّة من المُنطلقات الفردانيّة والجهويّة إلى منطلقات البرامج والطرح الفكري والسياسي العميق. كل هذا وإن كان غائبا على المشهد السياسي والحزبي في مختلف العمليات الانتخابية التي شهدناها، أين طغت مظاهر الاستقطاب الحادّ والانحراف بالنقاش السياسي من نقاش حول البرامج والطرح السياسي والايديولوجي، إلى نقاش حول شُخوص المُترشحين وقدرتهم على التمكّن من تطويع آليات الاتصال السياسي. ليتحوّل فضاء الفعل السياسي إلى فضاء مشهدي تُحدّد مدى نجاعته ونجاحاته القدرة على اخراج الصورة التي يستسيغها المُتلقي.[9]

إلّا أنّ هذه الأخطاء يتحمّلها العديد من المُؤثّثين في المشهد السياسي، نتيجةً لهشاشة الأحزاب السياسيّة التي لم تجد فضاءً للمُراكمة والتشكّل سوى إثر سقوط نظام بن علي وبداية تحرير الفضاء العام من أيدي الاستبداد والتسلّط. وبالتالي فإنّ فترة الانتقال الديمقراطي مثّلت بالنسبة لها ولجزء كبير من مؤسسات الدولة التي تمّ احداثها ضمن ذلك المسار، مُختبرا حقيقيّا لمُراكمة الفعل السياسي لحق عهدا طويلا من التصحّر والقمع. كما كان من الصعب كذلك على المشهد الإعلامي الانتقال دفعة واحدة من الدور الهامشي والمُعتّم إلى فضاء جديد تكسُوه قيم التعدديّة والحريّة. بالإضافة إلى عدم استكمال بناء الإطار التشريعي والمؤسّساتي المُنظّم له.

بالرجوع إلى النقاشات التي خاضها أعضاء مجلس هيئة تحقيق أهداف الثورة لاختيار نظام الاقتراع الأنسب، نُلاحظ أنّ الاتفاق نحو اعتماد نظام الاقتراع السابق كان مردّه تحقيق لأوسع تمثيليّة مُمكنة داخل المجلس التأسيسي وضمان صُعود الترشحات الفرديّة والمُستقلّة، مع وضع حدّ لإمكانية تغوّل حزب حركة النهضة وافتكاكه لأغلب مقاعد المجلس الوطني التأسيسي. اعتبارا بأنّ المهام المُوكلة للمجلس من صياغة دستور جديد للبلاد ووضع لأعمدة الحكم الجديدة، يجبُ أن يستجيب لعدالة التمثيل.

فتُساهم في وضعه مُختلف الشرائح الاجتماعية وجلّ الروافد الفكريّة والسياسيّة. حتى يكون دستورا يستجيب للمطلبيّة الاجتماعية والسياسيّة التي طالب بها الشعب التونسي شتاء ديسمبر – جانفي 2011.
إلّا أنّ خصوصية فترة التأسيس تختلف جذريّا مع خصوصيّة مرحلة الحكم، باعتبار أنّ هذه الأخيرة تتطلّب حدّا أدنى من الاستقرار من أجل تركيز مؤسّسات الحكم وتنفيذ برامج الأحزاب التي نالت ثقة الناخبين.

تتجلّى العوائق التي طغت على المشهد البرلماني في تونس منذ سنة 2014، في تعطّل آليات إدارة الحكم في البلاد طيلة السنوات الأخيرة، أو في انتخاب أعضاء الهيئات الدستورية أو التجديد النصفي في تركيبة مجلسها. فكُلّما تعطّل التوافق تعطّلت معه عمليّة إرساء هذه الهيئات، وهو ما أوصل البعض منها إلى سُقوط الآجال الدستورية لتكوينها وارساءها نتيجة فشل إيجاد التوافق بين الكُتل النيابيّة، لتغليب منطق المُحاصصة الحزبيّة ومُحاولة تدجين هذه الهيئات بأعضاء مُوالين أو قريبين لتلك الكُتل البرلمانيّة (المحكمة الدستورية: مُرور أكثر من خمس سنوات وتسعة أشهر على الآجال الدستورية المُحدّدة لإرسائها). إضافة إلى استحالةالاقتراع[10]. حيثُ تبقى عمليّة تشكيل الحكومات رهينة الاتفاقات السياسيّة التي يُجريها قادّة وزعماء الأحزاب السياسيّة من خارج المؤسّسات الرسميّة للحكم. وأحيانا ما يتمّ تصعيد لشخصيات لا وزن انتخابي لها لتُعهد لها مُهمّة قيادة المناصب السياسيّة العُليا في البلاد.[11] إلى جانب ذلك، تعطّل العديد من الأدوار الأخرى للسلطة التشريعيّة، سواء في جمع الأغلبيّة اللازمة للمُصادقة على مشاريع القوانين الأساسيّة التي تستوجب مُوافقة الأغلبيّة المُطلقة لأعضاء المجلس أو في النجاعة المطلوبة لمُناقشة مشاريع القوانين المعروضة صلب اللجان المُختصّة في النظر.

دفعت حالة التعطّب تلك وغياب للنجاعة والمردوديّة النيابيّة مع تواصل نزيف التشرذم وعدم استقرار المشهد البرلماني، إلى التفكير نحو تنقيح القانون الانتخابي عبر القيام ببعض الإصلاحات التي من شأنها أن تضمن حدّا أدنى من الأغلبيّة القادرة على الحُكم مع المُحافظة على مبدأ التعدديّة. وكانت أولى هذه المُبادرات مشروع قانون تقدّمت به حكومة يوسف الشاهد سنة 2019 قبل بضعة أشهر من تاريخ انتخاب أعضاء البرلمان للعهدة النيابية الثانية، تضمّن هذا المشروع عتبة انتخابية بـ 5 % على مُستوى الدائرة، بالإضافة إلى تعديلات عديدة مسّت من شروط الترشّح. اعتبرت أنّها قد حيكت على مقاس قوى سياسيّة مُعيّنة قصد اقصاءها ومنعها من الترشّح، وأنّ ادراج للعتبة الانتخابية سيكون له تأثير على المشهد البرلماني وضرب للتعددية الحزبيّة والسياسيّة[12].

صادق البرلمان على مشروع هذا القانون بعد التنزيل من نسبة العتبة إلى 3%، لكنّ الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي امتنع عن ختمه.[13] لتُطرح فكرة التعديل من جديد خلال الدورة الأولى من العُهدة البرلمانية الثانية 2019-2024، بمُقترحيْن تقدمت بهما كلّ من كُتلة حركة النهضة وكتلة ائتلاف الكرامة[14]. شرع حينها المجلس بالنظر في المُقترحين في لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية. تخلّلت عمليّة النظر تلك جملة من الاستماعات للهيئات المُختصّة ولمكونات المُجتمع المدني التي تشتغل في الحقل الانتخابي، والتي تقدّمت بدورها بمقترحات عديدة حول مُختلف جوانب القانون الانتخابي ونُظم الاقتراع. ليبقى هاذين المُقترحين في الأخير بين رفوف مجلس نواب الشعب. بعد أن قرّر رئيس الجمهورية تجميد أعماله في 25 جويلية 2021 قبل أن تتمّ إحالتهما للنظر والمصادقة صلب الجلسة العامة للمجلس.

إنّ تحميل نظام الاقتراع القائم وحده مسؤوليّة التشتّت البرلماني يُعدّ موقفا يحتاج إلى الكثير من التنسيب، فاعتبار أنّ التعدديّة الحزبيّة داخل البرلمان تسبّبت في تشتّته وعدم نجاعة العمل داخله يُمثّل خطابا مُهيمنا هدفه تمرير لسرديّة تسلطيّة تدفع نحو تغيّير نظام الاقتراع النسبي واستبداله بنظام الاقتراع الأغلبي، في حين أنّ مُعظم الديمقراطيات في العالم تحكمها ائتلافات برلمانيّة تتشكّل من عدّة أحزاب.

بالرجوع إلى العُهدتين البرلمانيتين[15]، نرى أنّ المشهد البرلماني إثر انتخابات 2014 لم يكن يُعاني في بداياته مُطلقا من حالات التشتّت، بل حصل ذلك بفعل انقسام كتلة نداء تونس[16]الكتلة الحاصلة على أكبر عدد من مقاعد البرلمان. أمّا بالنسبة لبرلمان 2019، فإنّ ضعف الأحزاب السياسيّة واحتقان الأوضاع بينها إلى حدّ التبادل لشتّى أنواع العنف ومُمارسة جلّ أنواع الاقصاء دفع نحو التشتّت وتوتّر الأوضاع داخله.

كان من المُمكن تجاوز مُختلف هذه الأمراض التي حطّت من قيمة البرلمان، لا عبر مُحاولات تنقيح القانون الانتخابي بمنطق تُغذيه الغنيمة والمُغالبة السياسيّة. وإنّما من خلال تحديد مواطن النُقص والخلل صلب النظام الانتخابي. كتغيير طريقة توزيع المقاعد من نظام أكبر البقايا إلى نظام أكبر المُتوسطات أو بإقرار عتبة وطنيّة تُساهم في الحدّ من صُعود الأطراف التي تبحث عن مزيد تدعيم نُفوذها المالي الغير مشروع عبر تعزيزه بالنفوذ السياسي وحصد جلّ الامتيازات التي تُوفّرها الصفة السياسيّة. مع المُحافظة على التعدديّة الحزبيّة تحت قبّة البرلمان.

مثّلت لحظة 25 جويلية 2021 مرحلة سياسيّة جديدة قرّر إثرها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الرّافض لنظام الاقتراع الذي اعتمدته هيئة تحقيق أهداف الثورة، الشُروع في تنفيذ مشروعه السياسي الجديد القائم على فكرة الاقتراع على الافراد في أضيق الدوائر قصد ضمان لتكريس فعلي لسيادة الشعب وممارسته للحكم بصفة مُباشرة.[17] وقد برزت جديّة نوايا الرئيس في الذهاب نحو البناء الجديد الذي ما انفكّ عن التبشير به وتعداد خصاله ومُميّزاته، في بعض الأسئلة الواردة في الاستشارة الإلكترونيّة التي تقدّم بها قيس سعيّد لاستفتاء الشعب حولها.

حيثُ طُلب من المُشاركين الاختيار بين نظام الاقتراع على الأفراد أو نظام الاقتراع على القوائم، مع أسئلة جوهريّة تُمثّل أحد أبرز المُقوّمات الأساسية لهذا المشروع وهي آليّة سحب الوكالة من النواب[18]. ليتمّ ترجمة مُخرجات هذه الاستشارة أوّلا في دستور جديد خطّه رئيس الجمهوريّة بمعزل تامّ عن المُقترحات التي تقدّمت بها اللجنة الاستشاريّة الصوريّة التي تولى بنفسه تكوينها وتعيّين أعضائها. وثانيا عند اصدار المرسوم المُتعلّق بتنقيح وإتمام القانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء[19]، والذي وُضع بموجبه بعضا من ملامح نظام الاقتراع الجديد.

وهنا وجب لنا الإشارة لملاحظة تقنيّة هامّة، مفادها أنّ المرسوم الجديد أدخل تحويرات جوهريّة مسّت نظام الاقتراع القديم، طريقة الترشّح، طريقة تقسيم الدوائر الانتخابيّة، إلى جانب تكريس لآليّة سحب الوكالة من النائب. وبالتالي فإنّه من غير الصواب أن نعتبر أنّ هذا المرسوم قد جاء لتنقيح واتمام القانون الانتخابي. لأنّ عمليّة تنقيح القوانين لا تمسّ من جوهر النصّ. وإلّا فإنّه سيتمّ اعتباره قانونا جديدا يتمّ بمقتضاه الغاء القانون السابق. وهو ما فعلهُ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد لكن بصفة ضمنيّة.

نظام الاقتراع على الأفراد، من أجل التجسيد الفعلي لأحلام الرئيس

لا يُمكن التطرّق للقانون الانتخابي الذي أصدره رئيس الجمهورية قيس سعيّد، دون ادراجه ضمن سياق أشمل يتعلّق أساسا بمجموعة المراسيم التي أصدرها في السابق والمُتعلقة بتنظيم بعض الجوانب الاقتصاديّة والتنمويّة في البلاد. من قبيل مرسوميْ الصلح الجزائي والشركات الأهليّة، إضافة إلى المراسيم المُنظمة للنظام السياسي القائم.

لوهلة أولى، إنّ المُتابع للخطاب السياسي لرئيس الجمهوريّة قيس سعيّد مُنذ الحملة الانتخابية لرئاسيات 2019 وُصولا إلى لحظة 25 جويلية 2022، يُدرك جيّدا أنّ التوجّه العام الذي يرمي رئيس الجمهوريّة إلى ارساءه، هو إعادة بناء النظام السياسي من القاعدة تحت مُسمّى “البناء القاعدي”. لكن هناك بُونٌ شاسع بين القول والفعل، يتجلّى أساسا في الدستور الجديد الذي بمقتضاه مُنحت صلاحيات مُعزّزة لفائدة السلطة التنفيذيّة مُقابل بقيّة السلط الأخرى.[20] كذلك في العلاقة بالشركات الأهليّة من خلال إعطاء صلاحيات مُوسّعة للسلطة التنفيذيّة على مُستوى المُراقبة والتمويل[21] والذي تمّ حصره في الأموال المُتأتية من الصلح الجزائي وتوزيعها الخاضع للجنة الصلح الجزائي المُعيّنة من قبل رئيس الجمهوريّة، مع تشريك صُوري للجهات.[22]

ومن هنا نتبيّن ضعف العقل السياسي لقيس سعيّد الذي يُراوح بين إرجاع المُبادرة السياسيّة إلى أصحابها الفعليّين على المُستوى الخطابي، وايغاله في مركزة السلطة في يده على مُستوى المُمارسة والتطبيق. لينبع قانونه الانتخابي من أعماق هذه التناقضات.

ضمن هذا السياق يندرج القانون الانتخابي، الذي حمل جملة من الخصوصيات (تقسيم جديد للدوائر الانتخابية، شرط تزكية المُترشحين، الانتخاب على دورتين، التقليص من عدد مقاعد البرلمان، احداث لآلية سحب الوكالة من النائب…) دون وجود أيّ مُرتكزات علميّة واضحة وأهداف تقف وراء تجسيد هذا الخيار..

يستوجب إقرار نظام الاقتراع على الأفراد الذهاب نحو احداث تقسيم جديد للدوائر الانتخابية، عكس ما كان معمول به ضمن نظام الاقتراع النسبي وذلك للاختلاف الجذري بين النظامين. فحين يتمّ الاعتماد على نظام الاقتراع على القوائم، تُسندُ المقاعد داخل كل دائرة انتخابية حسب وزنها الديمغرافي[23] باعتماد معيار اسناد مقعد وحيد لكلّ 60 ألف ساكن داخل الدائرة الانتخابية الواحدة، مع وُجود بعض المعايير والتفاصيل الأخرى، مثل اسناد مقعدين إضافيين لكل دائرة يتراوح عدد سكّانها بين مائتين وسبعين ألف وخمس مائة ألف ساكن، أي تلك الدوائر التي تُعاني من هشاشة سُكانيّة نتيجة لغياب المنوال التنموي وتواصل لسياسات التهميش والاقصاء على امتداد عُقود من الزمن. كذلك باسناد مقعد إضافي للدائرة التي تبيّن بعد تحديد عدد المقاعد المُخصّصة لها أنّ ضبط عدد الأعضاء يُفضي إلى بقيّة تفوق ثلاثين ألف ساكن.[24]

وبالتالي فإنّ هذا التقسيم يستجيب لمبدأي المساواة بين المُواطنين وعدالة التمثيل أمام صناديق الاقتراع، من خلال تكريس لمعيار التناسب بين الوزن الديمغرافي للدائرة وعدد النُواب المُمثلين لها وتدعيم تمثيليّة المناطق المُهمّشة داخل البرلمان.

وهو ما نلحظُ غيابه في التقسيم الجديد للدوائر الانتخابية أين تمّ اهمال العامل الديمغرافي وأُحدث تقسيم جديد للدوائر الانتخابية بطريقة يسودها التفاوت وتغيب عنها جلّ المُرتكزات العلميّة والفلسفيّة المعمول بها في عمليّة تقسيم الدوائر الانتخابية.

فبالرجوع إلى القسم المُخصّص لضبط الدوائر الانتخابية بالتراب التونسي وعدد المقاعد المُخصّصة لها، نُلاحظ وُجود تفاوت كبير بين الدوائر الانتخابية سواء بين الولايات أو داخل نفس الولاية. حيثُ تمّ تقسيم ولاية تطاوين إلى ثلاث دوائر انتخابيّة تُصعّد كل دائرة منها مقعد وحيد لمجلس نواب الشعب رغم التفاوت الفادح بين هذه الدوائر من حيثُ عدد السكان. إذ تظمّ الدائرة الانتخابية (تطاوين الشمالية وبني مهيرة والصمّار) ما يزيد عن ثمانين ألف ساكن (80463)، في حين لا يتجاوز عدد السكان في الدائرة الانتخابية (الذهيبة ورمادة) خمسة عشرة ألف ساكن (14630) أي أنّ المقعد الوحيد في الدائرة الانتخابية الأولى يُساوي خمسة أضعاف المقعد في الدائرة الانتخابية الأخيرة.

كذلك نرصد التفاوت الحاصل في ولاية مدنين، بين الدائرة الانتخابية (بني خداش) والتي تظمّ (25276) ساكن، في حين تمّ ضمّ معتمديّة جربة أجيم والتي تشمل تقريبا نفس عدد سكان معتمدية بني خداش (25085) مع معتمدية جربة ميدون، ليصبح عدد سكان المُعتمديتين معا يتجاوز الـ 98 ألف ساكن. بتفاوت يصل إلى أربعة أضعاف بين الدائرتين الانتخابيتين.[25]

أيضا تُمثّل كل من معتمديات (أم العرائس والرديّف والمتلوي والمضيلة وسيدي بوبكّر) دائرة انتخابية واحدة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مُعتمديّة المتلوي هي الأكبر من حيث عدد الناخبين. فيُمكن بالتالي أن نجد مُرشحيْ الدور الثاني من الانتخابات التشريعيّة ينحدرون من تلك المعتمديّة، وحتى في صورة وُصول مُرشّح من منطقة أخرى إلى الدور الثاني فإنّ نتيجة الاقتراع قد تكون محسومة مُسبقا بسبب الاختلال المناطقي. وهو ما قد يُأثّر على نسبة المُشاركة لبقيّة المعتمديّات والتي ستكون ضعيفة جدّا أو مُنعدمة لعدم وجود مُرشّح يُمثّلهم في هذا الدور. هذا ما يعكس الغياب التامّ للمُساواة في عمليّة تقسيم الدوائر، والتي تفترض تمثيليّة المُواطنين في المجلس النيابي عبر اسناد المقاعد بحسب عدد السكان داخل كلّ دائرة انتخابيّة.[26]

فتقسيم الدوائر الانتخابيّة يُمثّل عمليّة في غاية من الدقّة والحسّاسة، يجعل من الضروري قبل الشروع فيها إلى القيام بدراسات جديّة، ديمغرافية وجغرافية واجتماعية وسياسية، لمختلف الانعكاسات التي قد ترتبط بتقسيم ما للدوائر، فضلا عن أنّ التقسيم يجبُ أن يتمّ وفق المعايير الدوليّة، وأن تتوفّر فيه شروط الاتصال والتواصل داخل نفس الدائرة. مع غياب للتضخيم الغير طبيعي لمنطقة على حساب الأخرى.[27]

يُبرّر مُناصري رئيس الجمهورية هذا التوجّه المُعتمد في تقسيم الدوائر الانتخابية، إلى محاولة نحو الغاء التفاوت الجهوي والاجتماعي الذي تسبّب فيه منوال التنمية المُعتمد من دولة ما بعد الاستقلال. أين وقع تميّيز بعض المناطق السياحيّة والبعض من مناطق تونس الكبرى على حساب ولايات الجنوب والشمال الغربي والوسط، عبر مركزة المشاريع الكُبرى وتحسين البنية التحتيّة فيها، مع تهميش المُدن الداخليّة وتحويلها إلى أرياف مُتمدّنة.

إلّا أنّ التغيّير في عمليّة توزيع المقاعد في البرلمان بين مختلف الدوائر الانتخابية واسناد مقعد وحيد لكلّ دائرة لن يُساهم في الحدّ من هذا التفاوت، أمام تهميش دور مجلس نواب الشعب في الدستور الجديد للجمهورية التونسيّة، والتعزيز من صلاحيات وتغوّل الوظيفة التنفيذيّة واسناد العديد من الصلاحيات التشريعيّة لها. مع حصر وظيفة البرلمان في عمليّة اقتراح القوانين والمُصادقة على مشاريع القوانين المعروضة من قبل رئيس الجمهوريّة.

فتحسين وضع المناطق المنكوبة والتشجيع على بعث المشاريع التنمويّة فيها لا يُمكن حلّه فقط عبر مركزة السلطة السياسيّة بتمثيليّة محليّة تُسند كمساحيق التجميل على مشروع سياسي تشكّل داخل وعي زائف هدفهُ الوحيد هو إكساء هذه المركزيّة بروح من التشاركيّة المُزيّفة. والتي يصعُب تحقّقها في ظلّ تهميش مكانة السلطة المحليّة المُتمثّلة في المجالس البلديّة، والتي أقرّ دستور 2022 إلغاء كافة الفُصول المُتعلّقة بالجماعات المحليّة وتعويضها بفصل يتيم. ليُطرح التساؤل حول وجاهة هذا الإلغاء وما يُمكن أن يترتّب عليه من هدم لمسار ليزال في طور التشكّل والبناء.

لا تتوقّف سلبيات المرسوم الانتخابي عند حدود غياب لرؤية واضحة في عمليّة تقسيم الدوائر الانتخابية فقط، بل يتواصل ليشمل كذلك شرط جمع التزكيات للمُترشحين كركيزة أساسيّة من ركائز مشروع البناء القاعدي. وهو شرط مُجحف للغاية باعتبار أنّه لا تُقبل الترشحات التي لم تجمع تزكية 400 شخص من الناخبين المُسجلين في الدائرة الانتخابيّة، على أن تكون هذه التزكيات مُعرّف عليها بإمضاء المُزكين لدى ضابط الحالة المدنيّة أو لدى الهيئة الفرعيّة للانتخابات المُختصّة تُرابيّا.[28]

وهنا نطرح التساؤل حول وجاهة هذا الاختيار الذي لن يُساهم مثلما يتصوّر رئيس الجمهوريّة في الحدّ من الترشّحات العشوائيّة وحصر عمليّة الترشّح لدى الأفراد الجديّين ممّن يحظُون بصيت وسمعة عاليّة في الجهات التي ينتمون إليها. بل سيُؤدي شرط التزكيات إلى حصر عمليّة الترشّح لدى الفئات الاجتماعية المُسيطرة على المال والمالكة لمشاريع ذات طاقة تشغيليّة مُرتفعة في الجهات. والتي يُمكن لها جمع 400 تزكية للترشّح لانتخابات مجلس نواب الشعب، خاصة بعد قرار وقف الانفاق العمومي على الانتخابات والاقتصار فقط على التمويل الذاتي للحملات الانتخابية، وبالتالي تعبيد طُرق الوصول للبرلمان للأفراد القادرين في الانفاق على حملاتهم الانتخابية.

إنّ مثل هذا الشرط لن يُساهم في الحدّ من استحواذ بارونات المال والأعمال على المشهد البرلماني والسياسي في البلاد والنأي بالمشهد السياسي وتحصينه من ظواهر الارتزاق، بل سيزيد من تدعيم مكانتها عبر وضع لمثل هذه العراقيل أمام محدُودي الإمكانيات. وهو ما سيجعل من شرط التزكية خاضع للعرض والطلب يحتكره من له القدرة على تحقيق المطالب الآنيّة (من دفع الأموال أو التدخّل الآني لتحسين وضعية اجتماعية…).

حيثُ بدأت مُحاولات شراء التزكيات وتوجيه الناخبين لتزكيّة مُرشّحين مُعيّنين على حساب مُرشحين آخرين في الظهور والانتشار مُنذ فتح باب تقديم الترشحات من قبل الهيئة العُليا المُستقلة للانتخابات. وهو ما دفع برئيس الجمهوريّة في اجتماعه مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن بقصر قرطاج يوم 9 أكتوبر 2022، الإعلان عن نيّته لتنقيح المرسوم الانتخابي لوضع حدّ أمام ظاهرة التلاعب بالتزكيات.

وتجدرُ الإشارة أنّ هذا التنقيح لن يكون الأوّل، فقد درج رئيس الجمهوريّة من خلال مساره الانفرادي في صياغة المراسيم إلى تنقيح مشروع الدستور بعد صدوره ببضعة أيّام في الرائد الرسمي. نتيجة كثرة الانتقادات التي قُدّمت من قبل المُختصّين والفاعلين السياسيين والمدنيين.

من جهة أخرى، فإنّ هذا العدد المُرتفع من التزكيات المطلوبة سيتسبّب في تعطيل العمل داخل إدارة الحالة المدنيّة التي تشكو بطبعها من حالة التعطّل الدائم نتيجة مظاهر البيروقراطية الإدارية التي تفرض استخراج وإمضاء العديد من الوثائق بالطرق القديمة التي عفا عنها الزمن وتمّ استبدالها في العديد من الدول بطرق رقميّة مُتطوّرة تُساعد على ربح الوقت والتقليل من التكلفة الباهظة للوثائق.

كما نلحظُ أيضا أنّ حالة التعطّل والعجر التي يُمكن أن تحدث صلب المكاتب الفرعيّة للهيئة العُليا المُستقلة للانتخابات في عمليّة فرز التزكيات والتحقّق منها، سيُمثّل جهد إضافي ينضاف إلى الجُهد الموكُول إلى هذه الفروع الجهوية في عمليّة الاعداد وضمان حسن سير العمليّة الانتخابية. وبالتالي فإنّه من الوارد جدّا أن تُأثّر عمليّة التثبّت من التزكيات على حُسن سير المهام العاديّة للهيئة. نظرا لما تتطلّبه عمليّة التثبّت تلك من موارد بشريّة مُرتفعة وامكانيات تقنيّة مُتطوّرة تُمكّن من إعادة رقن هذه التزكيات في مُحتوى رقمي يُتيح التثبّت من إمكانية تزكيّة أحد المُسجلين لأكثر من مُترشّح. وهو أمر نراه شبه مُستحيل أمام الإمكانيات المحدودة للهيئة.

من ناحية أخرى، الشرط الوارد بالفصل 21 جديد فقرة ثانية: “…ويجب أن يكون نصف المُزكين من الإناث والنصف الثاني من الذكور، على أن لا يقلّ عدد المُزكّيات والمُزكّين من الشّباب دون سنّ الخمس والثلاثين عن 25 %. ولا يجوز للناخب أن يُزكّي أكثر من مُترشّح واحد.” هو شرط يحصر دور النساء والشباب في التأثيث للمشهد الانتخابي القادم واضفاء لشرعيّة زائفة عليه. حيثُ أنّ المُشاركة الشبابيّة والنسائيّة في الحياة السياسيّة تستوجب سنّ تشريعات تفرضُ على الأحزاب السياسيّة والقائمات الائتلافيّة والمُستقلّة تمثيلهم لقبول القائمات، مثلما كان معمُول به في القانون الانتخابي السابق نسبيّا عبر فرضه لمبدأ التناصف العمودي والتشجيع على تمثيليّة الشباب في القائمات المُترشّحة.

وبإلغائه لمبدأ الترشّح على القائمات واستبداله بالترشّح على الأفراد، دعّم قيس سعيّد التوجّه الذكوري المُتغلغل في ذهن العديد من المواطنين الرافضين لفكرة تقلّد النساء لمناصب سياسيّة عُليا في الدولة حتى وإن أثبتن الكفاءة والنزاهة. ليكون رئيس الجمهوريّة الذي صرّح في السابق عن رفضه للمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، مُتناغما مع أفكاره وتوجهاته بجعل المرأة عُنصر مُكمّل للرجل ينحصر دورها في تزكيته وانتخابه لتوليه المناصب السياسيّة العُليا، وهو ما يبرز بصفة جليّة من خلال الاحصائيات اليوميّة حول الترشّحات للانتخابات التشريعية والتي تقوم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بنشرها على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي، حيثُ لم تترشّح سوى 214 امرأة من مجموع 1427 ترشّح قُدّم إلى غاية يوم 27 أكتوبر 2022 [29]. وكذلك نفس الشيء بالنسبة للشباب حيثُ سترتفع نسبة عزوفه عن المُشاركة في الحياة السياسيّة.

إنّ فكرة الغاء الترشّح على القائمات واستبدالها بنظام الترشّحات الفرديّة جاءت بهدف تهميش دور الأحزاب السياسيّة باعتبارها الأطر الدائمة والقارّة في عمليّة التصعيد للبرلمان. وذلك بفضل قدرتها على التشكّل والانتشار في أوسع المناطق والجهات. وهنا يتناغم قيس سعيّد مرّة أخرى مع قناعاته الفكريّة وانطباعاته النفسيّة حيثُ اعتبر إثر صدور المرسوم المُنظّم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي أنّ الأحزاب السياسيّة قد قامت بالسطو على إرادة الشعب التونسي وثورته العفويّة التي قام بها. مُتجاهلا أنّ شعارات الثورة التونسيّة والمطالب التي نادى بها المُحتجّون، جميعها ذات بُعد سياسي واضح.

حيثُ أنّه من المُستحيل أن تنتشر الاحتجاجات التي انطلقت من منطقة سيدي بوزيد لتشمل جلّ الولايات والمعتمديات بالتراب التونسي دون أن تكون هناك قيادة ثوريّة أو نقابيّة تقوم بتحريك الشارع وتنظيم وتأطير المسيرات والاحتجاجات. فعفويّة اللحظة انحصر في يوم 17 ديسمبر، أمّا تأمين عمليّة مُواصلة الاحتجاجات وانتشارها وتدويلها إعلاميا والارتقاء بها من حالة الغضب والرفض، إلى حالة سياسيّة عامّة ذات مطلبيّة تُنادي بإسقاط النظام القائم ووضع حدّ لغطرسته ولتفشي الفساد فيه، ساهمت فيه النُخب السياسيّة والمدنيّة الفاعلة زمن الاستبداد. وبالتالي فمن التجنّي تهميش الدور الذي لعبته هذه المجموعات والأفراد.

أشرنا في بداية هذا المقال إلى أنّ عمليّة إقرار تنزيل أيّ نظام انتخابي في الواقع يخضع بالضرورة إلى دراسة عميقة للظواهر السوسيولوجية والتنمويّة، وذلك لاختيار نظام الاقتراع الذي يتماشى مع خصوصيات تلك الدُول.
إذا ما بحثنا حول الدواعي الرامية وراء إقرار نظام الاقتراع على الافراد في المرسوم الانتخابي الجديد، نرى بوضوح أنّ هذا النظام جاء فقط كردّة فعلٍ قصد إلغاء نظام الاقتراع على القائمات دون وجود لأيّ مُرتكزات واقعيّة تُساهم في نجاح العمل به. فبروز النزعات العشائريّة في بعض المناطق بالجمهورية التونسية والتي وصلت أحيانا إلى إسالة الدماء وزهق الأرواح ستجدُ لنفسها فضاءً حيويّا سيدفع نحو مزيد تغذيتها واحتدامها، خاصة مع فشل دولة الاستقلال في الأخذ بعين الاعتبار التوازنات اللازمة بين الجهات والفئات عند انتهاجها لسياسات تحديثيّة في مجاليْ نشر التعليم والرعاية الاجتماعيّة، حيثُ كانت النتيجة هي بروز النعرات الجهويّة إلى جانب الرواسب العشائريّة الموروثة[30].

فالافتراض الذي يستند إليه المدافعون عن نظام الاقتراع على الأفراد في دوائر صُغرى، بأنّ المعرفة الشخصيّة بالمُترشحين ُيُؤدي إلى انتخاب الأكثر كفاءة ونزاهة، يعكس محدوديّة إلمامهم بالمعطى السوسيولوجي وبالتجارب المقارنة. فالروابط الأولية، أي العائلة والعشيرة، والمصالح المادّية الآنيّة المبنية على العلاقات الزبونيّة، يكون دورها محدّدا كلما ضاقت الدائرة الجغرافيّة وكلّما ضعُف البُعد السياسي للعمليّة.[31] ولعلّ أفضل دليل على ذلك هو ما أفرزته الدائرة الانتخابية القصرين في الانتخابات التشريعية لسنة 2019، حيثُ تمّ قبول 67 قائمة للتنافس لانتخابات مجلس نواب الشعب.

ترشّح في عدد كبير منها شخصيات معهود لها بالكفاءة والنزاهة والاستقامة، إلّا أنّ الناخبين وقتها منحُوا أصواتهم لأشخاص تشوبهم شبهات فساد ماليّة. حيثُ قاموا بالترشّح ضمن قائمات حزبيّة معروفة ليتمّ التّصاهر بين المُراكمة السياسية لهذه الأحزاب مع امتلاك الأموال المشبوهة لهؤلاء الأشخاص لتكون النتيجة هي الفوز بمقاعد في البرلمان.

سيُساهم نظام الاقتراع على الأفراد في مزيد انتشار وتفاقم هذه الظواهر، باعتبار أنّ هؤلاء الأشخاص لن يعُودوا في حاجة بعد لثقة الأحزاب السياسيّة لضمان البقاع الأولى ضمن قائماتها الانتخابيّة.

إنّ آليّة سحب الوكالة من النائب المُخلّ بواجب النزاهة أو المُقصّر في القيام بواجباته النيابيّة[32]، وإن تبدو خلال الوهلة الأولى آليّة رقابيّة هامّة ستُساهم في تدعيم المُشاركة السياسيّة الدائمة للمواطن وعدم انحصارها في المُشاركة الموسميّة التي تستدعيها المراحل الانتخابية فقط. مع الدفع نحو توطين العلاقة بين النائب والمواطن ومُراقبة هذا الأخير لأعماله طيلة فترته النيابيّة. إلّا أنّه وبالرجوع إلى الفصل 39 مُكرّر من المرسوم الانتخابي الجديد، نُلاحظ أنّ هذا الفصل اشترط أن تكون عريضة سحب الوكالة مُمضاة من عُشر الناخبين المُسجلين بالدائرة الانتخابية التي ترشّح بها النائب المعني. وهو ما يضعنا أمام التساؤل حول وجاهة هذا الاجراء واقعيّا.

باعتبار أنّه من السهل جمع هذه النسبة في بعض الدوائر الانتخابية التي تظمّ عددا ضئيلا من المُسجلين. وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه أمام الابتزاز وغياب للاستقرار البرلماني حتى في الاستثناءات التي حدّدها المرسوم والواردة في الفصل 39 جديد فقرة ثانية، وإمكانية اعتراض النائب المعني أمام القضاء الإداري.

كما أنّ عمليّة البتّ في مطالب سحب الوكالة وتحديد لمدى وجاهة الاخلال الذي اقترفه النائب، قد يُعهدُ للنظر فيها لفائدة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وذلك لاعتبار بسيط وهو عدم التنصيص صلب المرسوم عدد 55 عن الجهة القضائيّة أو الهيئة التي ستتولّى البتّ في مضمون عرائض سحب الوكالة، والوقوف عند وجاهة هذه العرائض. بل الاقتصار على التنصيص صلب الفصل 39 ثالثا من المرسوم الانتخابي على صلاحية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في اصدار قرارها حول قبول أو رفض عريضة سحب الثقة من النائب بعد التثبّت من توفّر الشروط القانونية فيها.

وهنا سيُفتحُ باب جديد للتأويل، حول دقّة مصطلح “الشروط القانونبة”. إن كانت ستقتصر فقط على التثبّت من عدد الامضاءات والشروط المُتعلّقة بالآجال المُحدّدة للتقديم…، أم سيتمّ التوسيع من هذا المفهوم ليشمل بقيّة الجوانب المُتعلّقة بمضمون العريضة، أي وجاهة أسباب سحب الثقة ومدى مُطابقة هذا الطلب مع مردوديّة النائب داخل البرلمان. وهنا وجب التنويه إلى أنّ توسيع عمليّة النظر ستكون في غاية من الخطورة باعتبار أنّ مهام الهيئة في مُجملها هي مهام تقنيّة، والبتّ في المسائل المُتعلّقة بالنزاع الانتخابي كان معهود به لفائدة القضاء الإداري أو محكمة المُحاسبات نظرا للخصوصيات الدقيقة المُتعلقة بالبعض من جوانبه، والتي تستوجب دراية مُعمّقة بمختلف المسائل القانونية والواقعيّة الدقيقة.

وبالتالي فإنّ مثل هذه المسائل الدقيقة والجوهريّة وجب ترحيلها للنظر فيها إمّا أمام القضاء المُختصّ أو عبر إحداث لهيئة مُستقلّة مُتخصّصة تتفرّغ للبتّ في مثل هذه المسائل اللاحقة حتى لا تتحوّل آليّة سحب الوكالة إلى سيف دموقليس[33] يُسلّطه رئيس الجمهوريّة على مُعارضيه داخل البرلمان، الذين سيكونون رهينة أمام إرادة الخاسرين الذين سيلجؤون حتما إليها في محاولة منهم لتغيّير المُعادلة السياسيّة طوال الفترة الانتخابية. ليُصبح البرلمان عبارة عن فترة انتخابية مفتوحة ومُتواصلة.[34]

خلاصة

رغم التنازلات التي قدّمها رئيس الجمهوريّة في مرسومه الانتخابي الذي حبّره بنفسه بعيدا عن آراء المُختصّين والمُشتغلين في الحقل الانتخابي، بعدم تكريسه لكافة معالم البناء القاعدي الذي بشّر به مُنذ ترشّحه للانتخابات الرئاسيّة. كحلّ سحري سيقضي على كافة تمظهرات الفشل السياسي الذي ساد المرحلة الفارطة حسب تشخيصه، وسيُقلّص من التفاوت الغير عادل بين الجهات. دون الوقوف عند مُختلف المسائل السوسيولوجيّة والاقتصادية والخصوصيات الثقافية التي تُميّز بعض المناطق عن الأخرى. مُتجاهلا في ذلك فكرة أنّ مُراجعة طريقة الاقتراع ليست المُحدّد الوحيد في ضمان الاستقرار السياسي وعقلنة المشهد الحزبي،[35] ما لم تُشفع بمُحاولات الوقوف عند تأثيرات الوقائع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية…، والبحث الجدّي لمحاولة إيجاد حلّ لها. بعيدا عن رفع الشعارات العريضة والتملّص الدائم من المسؤوليّة.

فبالوقوف عند أبرز مواطن الخلل وعدم الوضوح التي طغت على هذا المرسوم، يُمكن لنا أن نتصوّر أنّ مثل هذا النظام الانتخابي سيُفرز حتما مجلسا نيابيّا سينصدم به واضع المرسوم مثلما سينصدم به جُموع المُؤيّدين والأنصار.

——————————————————————————————————————


[1] محمّد رضا بن حمّاد، أسس الاقتراع العام، مقال صادر بمجلة الأحداث القانونية، عدد10 لسنة 1996، منشورات كليّة الحقوق والعلوم السياسية بتونس، ص8.

[2]محمّد رضا بن حمّاد، المبادئ الأساسية للقانون الدستوري والأنظمة السياسيّة، مركز النشر الجامعي، طبعة ثانية مُحيّنة، سنة 2010، ص354.

[3] المولدي قسومي، “في مواجهة التاريخ” صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى: أكتوبر 2021، ص 403.

[4] تولّت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي تمّ تأسيسها بمقتضى المرسوم عدد 6 الصادر في 18 فيفري 2011 بالإشراف على المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي في تونس، عبر إحداثها للهيئة العليا المُستقلة للانتخابات وإصدارها للمرسوم المُنظّم لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وجملة من المراسيم ذات الصّلة بالتنظيم السياسي.

[5] تمّ حسم الجدل الحاصل داخل الهيئة بالرفض لنظام الاقتراع على الأفراد والاختيار بالأغلبية على نظام الاقتراع على القائمات باعتماد التمثيل النسبي. في جلسة يوم الإثنين 11 أفريل 2011. لمزيد التعمّق حول هذه المسألة ولمختلف الآراء صلب مجلس الهيئة. يُراجع كتاب “في مواجهة التاريخ…” للمولدي قسومي، سبق ذكره، ص 409 وما يليها.

[6] M. Duverger, L’influence des systèmes électoraux sur la vie politique, Paris, A.Colin, 1950.

[7] الإبقاء على الفصل 32 من المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 والمُتعلق بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي. ليُصبح الفصل 107 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرّخ في 26 ماي 2014 والمُتعلّق بالانتخابات.
منطوق الفصل هو: “يُجرى التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد في مُستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا“.

[8] قانون أساسي عدد 16 لسنة 2014 مؤرخ في 26 ماي 2014 يتعلّق بالانتخابات والاستفتاء.

[9] لمزيد التعمّق حول هذه المسألة، يُراجع الفصل الثامن من كتاب “الديمقراطية المشهديّة”، للصادق الحمامي، دار محمّد علي للنشر، ص263 -265.

[10] فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمّد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1998، ص313.

[11] مثال: اختيار رئيس الدولة الحالي لإلياس الفخفاخ كشخصيّة الأقدر على تشكيل ورئاسة الحكومة. وذلك بعد اسقاط حكومة الحبيب الجملي في جلسة منح الثقة لها في البرلمان، وذهاب مُبادرة اختيار رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية.
نُشير هنا إلى أنّ إلياس الفخفاخ قد خاض غمار الانتخابات الرئاسية وسقط من الدور الأوّل بعد حصوله على 11532 صوت، أي بنسبة 0.3 %. ليُصبح رئيسا للحكومة مُتمتّعا بصلاحيات أوسع من صلاحيات رئيس الجمهوريّة المُنتخب انتخابا مُباشرا. كما أسند له البرلمان خلال جائحة الكوفيد-19 تفويضا بإصدار المراسيم خلال تلك الفترة، ليضمّ إلى جانب صلاحياته كسلطة تنفيذية، صلاحيات السلطة التشريعيّة.

[12] يُراجع بيان منظمة البوصلة حول تنقيح القانون الانتخابي، بيان صادر بتاريخ 20 جوان 2019، الرابط: https://www.albawsala.com/ar/publications/20191376

[13] المُفكرة القانونية، “الرئيس يُريد”: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره، ورقة بحثيّة، ص30.

[14] https://majles.marsad.tn/fr/legislation/2021/020
https://majles.marsad.tn/fr/legislation/2021/027

[15] العهدة البرلمانية الأولى: 2014 – 2019.
العهدة البرلمانية الثانية: 2019-2024 لم تكتمل هذه العُهدة بسبب التجميد ثمّ الحلّ الذي قام به رئيس الجمهورية على مجلس نواب الشعب.

[16] خلال الدورة البرلمانية الثانية من العهدة الأولى 2014-2019، تشكّلت بعض الكتل النيابية على غرار كتلة الحرّة التي ضمّت 15 نائبا، وكتلة الائتلاف الوطني 43 نائبا. وذلك اثر الانتقسام الذي عرفته كتلة نداء تونس الحاصلة على 86 مقعدا. ليتمّ النزول بعدد نوابها إلى 25 نائبا.
توزّع بقية النواب المُستقيلين إمّا على كُتل نيابية أخرى أو نُوابا غير مُنتمين لكُتل.

[17] تمّ اقتراح نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين على مجلس هيئة تحقيق أهداف الثورة من قبل لجنة من الخبراء. أنظر صبريّة السخيري زروق، انتخاب ومهام المجلس الوطني التأسيسي التونسي، مركز النشر الجامعي، 2014، ص 93. ورد في الورقة التحليلية “الرئيس يُريد…”، سبق ذكره، ص 29.

[18] يُراجع حول هذه المسألة، مقال الاستشارة الإلكترونيّة: الرئيس يستشير نفسه. مقالات منظمة البوصلة، الرابط: https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20224977

[19] مرسوم عدد 55 لسنة 2022 مؤرّخ في 15 سبتمبر 2022 يتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرّخ في 26 ماي 2014 المُتعلّق بالانتخابات والاستفتاء واتمامه، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 102.

[20] يُراجع في خصوص هذه المسألة تقرير مُنظمة البوصلة، قراءة أوليّة في مشروع دستور الرئيس: تأسيس جديد لسلطويّة قديمة، جويلية 2022.

[21] الباب السادس “في الإحاطة الإشراف”، من المرسوم عدد 15 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022 والمُتعلق بالشركات الأهليّة، الفصول من 63 إلى 70.

[22] الفصول 8،7 و12 من المرسوم عدد 13 لسنة 2022 المؤرخ في 20 مارس 2022 والمُتعلّق بالصلح الجزائي وتوظيف عائداته.

[23] مثال: دائرة تونس 1: 9 مقاعد، دائرة نابل 1: 7 مقاعد، دائرة باجة: 6 مقاعد، دائرة تطاوين: 4 مقاعد، دائرة توزر: 4 مقاعد، دائرة قفصة: 7 مقاعد، دائرة المهدية: 8 مقاعد.

[24] الفصلين 31 و33 من الأمر عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية 2011، ص 651.

[25] تقرير المعهد الوطني للإحصاء حول التقديرات السكانيّة حسب المعتمديات والبلديات، جوان 2022.

[26] في القانون الانتخابي السابق، كان توزيع المقاعد يخضع إلى عدد السكان داخل كل دائرة انتخابية وذلك عبر إسناد مقعد لكل 60 ألف ساكن.

[27] محمّد شفيق صرصار، ورقة سياسيّة عامّة حول ضوابط مُراجعة طرق الاقتراع، مركز الدراسات المتوسطية والدولية، سنة 2018.

[28] الفصل 21 جديد من المرسوم الانتخابي.

[29] أنظر الصفحة الرسمية للهيئة العليا المُستقلة للانتخابات على موقع الفايسبوك، رابط الصفحة: https://www.facebook.com/isietn

[30] محمّد علي الحباشي، كتاب عروش تونس، منشورات سوتيميديا، طبعة ثالثة – ماي 2017، ص6.

[31] مهدي العشّ، سعيّد يُصدر مرسومه الانتخابي: ملامح البناء القاعدي تتّضح رغم تنازلات ملحوظة، المفكرة القانونية، مقال، سبتمبر 2022.

[32] الفصل 39 جديد من المرسوم عدد 55 لسنة 2022، سبق ذكره.

[33] ورقة بحثيّة، “الرئيس يُريد…” مرجع سبق ذكره، ص59.

[34] نفس المرجع السابق، ص61.

[35] “Le mode de scrutin n’a pas un rôle moteur, mais plutôt un rôle de frein ou d’accélérateur”. Maurice Duverger, préface à Georges Lavau, Partis politiques et réalités sociales. Paris : Armand Colin, 1953.

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20225476/feed 0
تنفيذ ميزانية 2022 في أرقام https://www.albawsala.com/ar/publications/20225215 https://www.albawsala.com/ar/publications/20225215#respond Fri, 02 Sep 2022 11:08:39 +0000 https://www.albawsala.com/?p=5215  

بعد مرور أكثر من 35 سنة من تبنّي تونس برنامج الإصلاح الهيكلي و بعد تعاقب الحكومات على اختلاف أشكالها خاصة بعد ثورة 2011 فإن النتيجة واحدة ألا وهي مزيد تفاقم الأزمة على مستوى الموازنات المالية و السيسات الاقتصادية للبلاد. وعلى الرغم من التقدّم الحاصل في مكافحة جائحة كورونا وارتفاع معدلات التلقيح، لا يجب ان يحجب عنّا ذلك طبيعة التحديات الكبيرة المُقبلة في مجال المالية العمومية وتداعياتها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

حيث يشير قانون المالية 2022 إلى أن نسبة التدين قد بلغت 87٪ من الناتج المحلي الخام مما يخل من الموازنة المالية ويحد من إمكانيات الدولة للإصلاح عبر الإستثمار العمومي.   

وفي هذا السياق الوطني الذي يتسم بشدة قيود الميزانية من ناحية، وبالتوقعات الشعبية بتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة من ناحية أخرى، جاء قانون المالية 2022 مع الكثير من التوقعات لتغيير صيغة سابقاته في خضم غياب الاستقطاب والتنازع السياسي في البرلمان الذي غالباً تم تحميله مسؤولية عدم تمرير الإصلاحات اللازمة لتحسين حالة البلاد. 

فهل جاء قانون المالية لسنة 2022 بالإصلاحات اللازمة للوفاء بوعود الفترة الانتقالية ومواجهة تحدياتها؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار ما جاء في ميزانية الدولة 2022 ضمانا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟   

أهم ميزات ميزانية 2022  

ضُبطت ميزانية الدولة لسنة 2022 في حدود 47166 مليون دينار، أي بزيادة 6.6% مقارنة بقانون المالية التعديلي لسنة 2021، وبعجز في الميزانية; أي تجاوز المصاريف للمداخيل الكلية ب-8548 م.د. وعلى غرار الميزانيات السابقة، من المرتقب تعبئة ميزانية 2022 ب19983 م.د من موارد الاقتراض و 1310 م.د موارد خزينة أخرى، منها القرض الرقاعي الوطني.  

وتمثل وثيقة النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى شهر مارس 2022 التي تم نشرها من قبل وزارة المالية فرصةً لمتابعة نسبة تحقيق توقعات قانون المالية في الثلاثية الأولى ومقارنتها بنفس الفترة في السنة الفارطة. 

موارد الميزانية 

تمثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة أكثر من 90٪ من الموارد الذاتية للدولة (أي دون احتساب موارد الاقتراض). وينص دستور سنة 2014 في فصله العاشر على أن “تحمل التكاليف العامة واجب وفق نظام ضريبي عادل و منصف”. 

 أما دستور 2022 فينص كذلك في فصله الخامس عشر على أن “أداء الضرائب والتكاليف العامة واجب على كل شخص على أساس العدل والإنصاف…”. وقد أكد رئيس الجمهورية في المجلس الوزاري المنعقد حول قانون المالية في 22 ديسمبر 2021 على أهمية هذا المبدأ، مؤكداً أن الطبقات الفقيرة لا يجب أن تتحمل المزيد من العبء الجبائي في المرحلة القادمة.

رسم بياني 1: توزيع موارد الدولة الجبائية في قانون المالية 2022 

تمثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة أكثر من 90٪ من الموارد الذاتية للدولة (أي دون احتساب موارد الاقتراض)، فقد واصل قانون المالية لهذه السنة نفس التقسيم غير العادل للجهد الضريبي. 

حيث نلاحظ من الرسم البياني أن ميزانية الدولة لسنة 2022 ترتكز بالأساس على الضريبة على الأجور (29.8%) والضرائب على الاستهلاك التي تمثل معاً 39.63% من الميزانية (الأداء على القيمة المضافة 28.43% والضريبة على الاستهلاك 11.20%). أما بالنسبة لل30.57٪ المتبقية، فهي متكونة من 11.7% من الضريبة على الشركات، 5.3% من الأداءات الديوانية و 13.56% من ضرائب غير مباشرة أخرى.  

هنا يجدر التذكير بأن الاعتماد المفرط على الضرائب غير المباشرة يتعارض كليا مع مبدئي العدل والإنصاف الجبائيين المنصوص عليهما في الدستور. 

أما بالنسبة إلى أداء جمع الضرائب في هذه السنة، فقد زادت عائدات الدولة بنسبة 20.1٪ بين مارس 2021 ومارس 2022، أي من 7507.8 م.د في مارس 2021 إلى 8575.1 م.د في مارس 2022. 

  تتكون الزيادة في الإيرادات الضريبية بين السنتين من: 

  •  زيادة بنسبة 9٪ في إيرادات الضرائب على الأجور والرواتب من 1654 م.د إلى 1804 م.د. 
  • زيادة بنسبة 33٪ في الضريبة على الشركات من 694.8 م.د إلى 921.4 م.د في عام 2022. نظرًا لعدم وجود أي تغييرات كبيرة على معدلات الضرائب على الشركات في سنة 2022، من المرجح أن تكون الزيادة بنسبة 33٪ بسبب المقارنة مع فترة مارس 2021 التي عانت فيها تونس بشدة من أزمة الكوفيد.  
  • كما شهدت عائدات الضرائب غير المباشرة زيادة بـ 776.8 مليون دينار (18٪) ، وتتكون هذه الزيادة من: 
  1.  13% زيادة في عائدات الأداء على القيمة المضافة، 
  2.  11% زيادة في عائدات الضريبة على الاستهلاك،  
  3. 32% زيادة في عائدات في الأداءات الديوانية، 
  4. 27% في عائدات الضرائب غير المباشرة الأخرى مثل تعريفة 100 مليم التي تم تطبيقها 

نفقات الميزانية: التقسيم الوزاري  

من حيث الميزانيات الوزارية، التي يشار إليها باسم المهام، ظل التقسيم العام لميزانية الدولة يحافظ على هيكلها العام وأولوياتها المعتادة.

رسم بياني 2: توزيع نفقات الدولة حسب المهام (تقسيم وزاري) 

وهذا يعني أن وزارة التربية، وزارة الداخلية، وزارة الدفاع ووزارة الصحة، بقيت أعلى الوزارات من حيث النفقات مع ارتفاع ميزانية وزارة التجارة وتنمية الصادرات بنسبة 65.4٪ لتتصدر المرتبة الثالثة في هذا العام.

 وفيما يتعلق بالمهام الأخرى التي شهدت أكبر تغيير: 

رسم بياني 3: الوزارت الأكثر تطوراً بين ميزانيتي 2021 و 2022 
  • شهدت ميزانية وزارة الصحة انخفاضا ملموسا بلغ 618 مليون دينار. ويفسر هذا الانخفاض حسب التقسيم الاداري، بتراجع ب 418 مليون دينار على مستوى الرعاية الصحية الأساسية، ويفسر حسب التقسيم الاقتصادي بتراجع في نفقات الاستثمار ب 517 مليون دينار. 
  • من بين المهام التي شهدت ميزانياتها أكبر انخفاض نسبيا في 2022، شهدت المحكمة الدستورية إلغاء معظم ميزانيتها (75%). مما يشير إلى أن إنشاء هذه الهيئة لن يكون على جدول أعمال الحكومة لهذه السنة. 

أما بالنسبة إلى المهام التي شهدت ميزانياتها أكثر نموا،

  1.  تبرز ميزانية وزارة التجارة وتنمية الصادرات كأكبر مستفيد نسبيا هذه السنة. إذ شهدت ميزانية هذه الوزارة ارتفاعا ب-1568 مليون دينار حيث أضيف معظمها إلى ميزانية التجارة الداخلية مع انخفاض طفيف في ميزانية التجارة الخارجية. 
  2.  تمتعت وزارة النقل واللوجستيك بزيادة هامة في ميزانية النقل البري تقدر ب-218 مليون دينار. 
  3.  تمتعت وزارة الداخلية بزيادة 38٪ في ميزانيتها في سنة 2022. ويطرح دمج وزارة الشؤون المحلية مع وزارة الداخلية بعض النقاط المهمة التي يجب مناقشتها. 
  •  أولاً حافظت الشؤون المحلية على أهميتها من حيث الميزانية  حيث ارتفعت ميزانية البرنامج المخصص لها بنسبة 9.7٪ مقارنة بسنة 2021. 
  •  وبالرغم من هذا الإدماج في الميزانية، فلا تفسر هذه الإضافة إجمالي 38٪ زيادة في ميزانية وزارة الداخلية. حيث إذا طرحنا الميزانية المضافة وزارة الشؤون المحلية، نجد أن وزارة الداخلية تمتعت بزيادة بنحو نصف مليار دينار في أنشطتها. 
     
رسم بياني 4: تقسيم ميزانية وزارة الداخلية حسب البرامج الإدارية و التقسيم الإقتصادي 2022

نفقات الميزانية: نتائج التنفيذ إلى موفي مارس 2022   

حسب التقسيم الاقتصادي للميزانية (اجور ، استثمار ، تسير، تدخل)، نمت نفقات الدولة بين مارس 2021 ومارس 2022 ب3.2٪ من 8624.6 م.د في مارس 2021 إلى 8902.2 م.د حتى مارس 2022. 

وعلى الرغم من أن الميزانية تبدو وكأنها قد نمت في هذه الفترة ، إلا أنه إذا عدّلنا التضخم بين 2021 و 2022، فقد انخفضت النفقات العمومية فعليًا إلى 8305.5 م.د (بدينار مارس 2021) أو بنسبة 4٪. 

 خلال هذه الفترة : 

  • انخفض الإنفاق على الأجور من 5148 في مارس 2021 إلى 5078.5 م.د (4738.1 م.د بدينار 2021). ويعود ذلك على الأرجح إلى إجراءات ترشيد نفقات التأجير وعدم صرف الساعات الإضافية في القطاع العام
  • من ناحية أخرى، زاد الاستثمار العمومي بنسبة 15.3٪ ليبلغ  527.2 م.د من  457.4م.د، وهي زيادة هامة ومنتظرة ، ومع ذلك، لازال الاستثمار لا يمثل إلا  5.9٪ فقط من الإنفاق الإجمالي إلى موفى مارس. 
  • انخفضت نفقات التسيير بنسبة 31.6٪ من 368 م.د إلى 251.8 م.د (234.9 بدينار مارس 2021). 

خدمة الدين، عنصر الميزانية الخفي 

على الرغم من أن ميزانية الدولة ظلت في الغالب متناسقة في أولويات التمويل للوزارات، الجدير بالملاحظة أن خلاص الديون العمومية قد شهد زيادة كبيرة فالسنوات الأخيرة لتحتل هذه النفقة المرتبة الأولى في ميزانية الدولة. حيث بلغت دفعات الدين سنة 2021 أعلى مستوياتها التاريخية متجاوزة قيمتها 14.9 مليار دينار مقارنةً ب11.1 مليار دينار لسنة 2020 و 9.6 مليار دينار لسنة 2019. 

أما بالنسبة إلى سنة 2022, فقد حافظت خدمة الدين على هذا المستوى العالي (14.3 مليار دينار) مع تجاوز دفعات الديون الداخلية (8.2 مليار دينار) لدفعات الديون الخارجية (6 مليار دينار).  

رسم بياني 5 أ: توزيع نفقات الدولة بإحتساب خدمة الدين 
رسم بياني 5 ب : توزيع نفقات الدولة الأقل من 1% من الميزانية بإحتساب خدمة الدين 

إذا أخذنا خلاص الدين بعين الاعتبار، فستتولى هذه الدفعات المرتبة الأولى في ميزانية الدولة، وهو ما يعادل مجموع ميزانيات تسع وزارات نعتبرها حيوية: الصحة، التشغيل، الشؤون الاجتماعية، التعليم العالي، الفلاحة، البيئة، النقل، المالية والتجهيز والإسكان (14.5 مليار دينار معا). 

رسم بياني 5ج : توزيع نفقات الدولة باحتساب خدمة الدين 

يمكن فهم خدمة الدين من خلال الطريقتين المستخدمتين لاحتسابها. 

 يعتمد التقسيم الأول على نوع النفقة، أي خلاص أصل الدين أو خلاص فائدته. وقد بلغ تسديد أصل الدين حتى موفى مارس الحالي 2625.8 مليون دينار مما يمثل زيادة بنسبة 67٪ على دفعات مارس 2021 التي بلغت 1574.2م.د. ومن المرتقب أن تبلغ هذه الدفعات 10025 مليون دينار في أخر السنة، أو 8.3% من الناتج الداخلي الخام. 

 أما بالنسبة لفائدة الدين، فقد نمت ب-13% لتبلغ 1245.2 مليون دينار في مارس 2022 مقابل 1097.2 م.د في مارس الفارط، مما يعني أن نسبة دفوعات فائدة الدين تمثل 47.4٪ من دفوعات أصل الدين في الثلاثي الأول للسنة. ومن المرتقب أن تبلغ دفوعات فائدة الدين 4326 مليون دينار في أخر السنة، أو 3.6% من الناتج الداخلي الخام. 

تنذر هذه الأرقام بالخطر إذا فكرنا في نجاعة وكلفة منوال التنمية القائم على سياسة التدين على المدى الطويل وتأثيرها على ميزانية الدولة. إذ أصبحت الفائدة المضافة على أصل الدين تحتكر جزء هاماً من الميزانية يتجاوز ميزانية الصحة ووزارات أخرى ذات قيمة حيوية في الدولة.  

وتبقى أهمية هذه النفقات خفيةً في الميزانية بسبب عدم احتساب هذين الجزئين معاً عند احتساب نفقات الدولة حيث يكتفي القانون في معظم الأحيان بذكر فائدة الدين فقط كنفقة. 

رسم بياني 6: تطور خدمة الدين الداخلي والخارجي منذ 2010 

يعتمد التقسيم الثاني لخدمة الدين على مصدره، أي داخلي (بنوك أو قروض ترقيعية) أو خارجي (دول أخرى، بنوك أجنبية، ومؤسسات مالية دولية). وإذا اعتبرنا هذا التقسيم، فتتكون دفعات الدين التونسي حتى موفى شهر مارس 2022 من 2607.8 مليون دينار لتسديد الدين الداخلي و1263.2 مليون دينار للدين الخارجي. 

وإذا نظرنا إلى فائدة الدين، أو ربح المؤسسات المقرضة الداخلية والخارجية، فنجد أن الدولة قد دفعت 707.7 مليون دينار فائدة للبنوك التونسية ما بين جانفي ومارس 2022، أي ما يقارب مجموع ميزانيات مهمة السياحة، مهمة البيئة ومهمة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن معا في السنة كاملة. أما بالنسبة للدين الخارجي، فقد بلغ خلاص فائدة الدين الخارجي 537.5 مليون دينار حتى موفى مارس الحالي. 

كما تسمح لنا الوثيقة الخاصة بتنفيذ الميزانية باحتساب هذه الدفعات في شهر واحد، إذ ارتفعت دفعات فائدة الدين الداخلي بين فيفري ومارس ب-249.1 مليون دينار أو ما يقارب ميزانية مهمة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج فالسنة كاملة. 

ميزانية الدعم في ضل الأزمة الأوكرانية   

 تتكون ميزانية الدعم من 3 أجزاء: دعم المنتجات الأساسية، دعم المحروقات، ودعم النقل. وقد رصدت ميزانية هذه السنة 7262 مليون دينار للدعم، منها 3771 م.د لدعم المنتجات الأساسية و2891 م.د لدعم المحروقات و600 م.د لدعم النقل، مقارنةً ب-6031 م.د كميزانية كلية للدعم في 2021. 

تبين لنا نتائج تنفيذ الميزانية تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على نفقات الدعم في تونس. إذ كانت نفقات دعم المحروقات حتى موفى شهر مارس 2021 تساوي 100 مليون دينار، إلا أنها بلغت 755 م.د حتى موفى مارس الحالي مما يمثل زيادة غير مرتقبة ب-655% في هذه النفقة.  

وبرغم من تأثير الحرب على بورصة القمح واسواقها العالمية، فلم تشهد نفقات دعم المواد الأساسية ارتفاعا، بل وعلى نقيض ذلك شهدت انخفاضا من 449 م.د في مارس 2021 إلى 400 م.د في مارس 2022. 

رسم بياني 7: تطور نفقات الدعم بين مارس 2021 ومارس 2022 

ختاما، تعتبر الصعوبات في تمويل الميزانية الحالية من أعراض أزمة مالية عامة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث. حيث أدت الصدمتان الخارجيتان المتتاليتان، وهما الأزمة الصحية والحرب في أوكرانيا، إلى تفاقم الأزمة الهيكلية المرتبطة بمنوال التنمية المعطل في البلد. 

فتؤكد جل المؤشرات الاقتصادية فشل الحكومات المتعاقبة على البلاد التونسية قبل وبعد الثورة في تحقيق النمو الاقتصادي والارتقاء بالخدمات العمومية وجودة الحياة. إذ بعد عقد من تأخير الإصلاحات الضرورية أصبحت الأزمة المالية الحالية تتطلب أكثر من أي وقت مضى نقلة نوعية في السياسات الجبائية التي لا تزال حتى يومنا هذا تنسج على خطى النظام الجبائي القائم منذ الثمانينات.    

وبغض النظر عن التحديات والفرص التشريعية في الفترة السياسية الحالية، فإن قانون المالية لسنة 2022 لم يقدم الكثير من التجديد والمبادرة في مجال المالية العمومية ولم يتخذ الخطوات اللازمة لتخفيف الأزمة الاقتصادية.   

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن منظمة البوصلة قد نشرت ورقة سياسية تقترح فيها جملة من الإجراءات البديلة التي تتمحور حول تعبئة موارد الدولة الذاتية وتعزيز الاستثمار العمومي لمواجهة تداعي الخدمات العامة وانتشار الفقر وعدم المساواة بين الأفراد والجهات. 

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/20225215/feed 0
الاستشارة الالكترونيّة: الرئيس يستشير نفسه https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20224977 https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20224977#comments Wed, 16 Mar 2022 19:42:21 +0000 https://www.albawsala.com/?p=4977 تختلف الاستشارات الشعبية باختلاف القوانين المنظمة لها كما يختلف طابعها الإلزامي عن بقية الآليات الأخرى مثل الاستفتاء، لكن هذه الاستشارات تشترك في كونها تقوم على منهجيات واضحة تمكّن من الحصول على نتائج تمثيليّة للمجتمع أو جزء من المجتمع محلّ الدّراسة. 

منذ إعلان رئيس الجمهوريّة على خارطة الطريق يوم 13 ديسمبر 2021 التي تنزّلت ضمنها الاستشارة كمرحلة أولى تمهيديّة لإجراء استفتاء يستبدل بموجبه دستور 2014 ومجموعة من القوانين الأخرى، لم تظهر أي منهجيات تستند عليها هذه الاستشارة. 

حيث نزّل رئيس الجمهوريّة الاستشارة الوطنية، أو كما أراد هو تسميتها بـ” الاستفتاء الالكتروني ” في سياق إرجاع السلطة للشعب وتشريكه في الإصلاحات، التي ينوي القيام بها بعد ما أعلن حالة الاستثناء وفعّل الفصل 80 من الدستور ليصبح بمقتضى ذلك جامعا للسلطتين التنفيذية والتشريعيّة. لكن الاختيارات  التي ذهب فيها رئيس الجمهوريّة من حيث عدم اعتماد مبدأ التشاركيّة والتكتّم عن مسار إعداد الاستشارة الوطنيّة، حوّلت هذه الاستشارة لآلية يتجاوز بها القيود الإجرائيّة و لإضفاء مشروعيّة على التغييرات الدستورية والقانونية التي يريد وضعها بصفة أحاديّة. 

الديمقراطيّة الالكترونيّة والآفاق الجديدة 

فتحت “الديمقراطية المتصلة” أو ما يعبّر عنها بالديمقراطية الإلكترونية آفاقًا جديدة لممارسة الحقوق المدنية والسياسية للشعوب مثل الحق في تقديم العرائض الالكترونية، والتصويت الإلكتروني، والاستشارات وغيره من الآليات. هذه الابتكارات أصبحت تدرّس في مجال العلوم السياسية، كما وضعت العديد من الدول إطار قانوني ينظمها. حيث يُطلب من المواطنين المشاركة بطريقة مباشرة في المسارات التأسيسية كما وقع مع مشروع الدستور الأوروبي في 2004، أو في أيسلندا سنة 2011 أو في سريلانكا سنة 2016. ولا تقتصر هذه الممارسة على الفترات التأسيسية، حيث يمكن أن يساهم المواطنون والمواطنات في كتابة قوانين مثل ما هو الحال مع قانون الجمهورية الرقمية سنة 2016 بفرنسا.  

اليوم، بفضل المنصات الالكترونية المخصصة للغرض أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التعهيد أو الحشد الجماعي (Crowdsourcing) طريقة سهلة وشفافة للمشاركة في الحياة السياسية. حيث لا يتم مصادرة النقاش من قبل “أهل الاختصاص”. 

غالبا ما تنتج الأزمات السياسية والاقتصادية أو الحروب الأهلية تغيرات جذرية على الأنظمة والدساتير في العالم. ورغم اختلاف السياق التونسي عن غيره من الدول التي سارت نحو تشريك الشعوب في صياغة دساتير جديدة أو تعديلات كبرى في النظام السياسي، نجد نقاط تشابه مع عدة دول مثل سريلانكا أو أيسلندا التي حاولت التوجه للشعب قصد إبداء رأيه في تغيرات جوهرية محتملة على النظام السياسي أو حتى في صياغة وتأليف نصوص مشاريع الدساتير. 

في البداية، لاعتماد مثل هذه الآليات غير التقليدية، يجب أن يكون هناك إطار قانوني ينظمها. حيث لا يمكن أن يتقدم المواطنون والمواطنات لإبداء رأيهم حول مسألة ما دون أن تحدد مسبقا قوانين اللعبة، على غرار مدى إلزامية الاستشارة أو الحد الأدنى للمشاركة أو الجهة التي يمكنها إطلاقها كما هو الحال في القانون السويسري أو الكندي.  

ويعد مثال سريلانكا الأقرب للمثال التونسي، أين طلب رئيس الوزراء سنة 2016 من الشباب والأقليات التي عانت من الحروب الأهلية الدامية المشاركة عبر الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لإبداء رأيهم وتقديم مقترحاتهم حول دستور جديد للبلاد. 

إلا أن سريلانكا لم تكن سباقة في مثل هكذا استشارات، حيث كانت جمهورية أيسلندا بين عامي 2011 و2013 أول دولة في العالم تقوم بإطلاق استشارة إلكترونية قصد كتابة دستور جديد للبلاد، وقد تم إنشاء منتدى يضم 950 مواطنًا بالإضافة إلى مجلس يضم 25 ممثلاً عن المجتمع المدني. لكن التجربة الأيسلندية لم تكلل بالنجاح، فالنص الذي تم صياغته لم تتم المصادقة عليه في النهاية بسبب انعدام التوافق السياسي من ناحية الشكل والأصل حول مسودة الدستور. فالنّص القانوني يختلف عن غيره من النصوص، حيث يجب أن يتسّم بالدقة لتجنب الأزمات السياسية على غرار ما وقع خلال العشرية الأخيرة في تونس من تأويلات خاطئة للقانون سواء كان ذلك من قبل المحاكم أو حتى في إرساء مؤسسات في غاية الأهمية مثل ما وقع مع قانون المحكمة الدستورية وغيره من الفصول الفضفاضة في دستور 2014. 

الاستشارة والاستفتاء 

غالبًا ما يتم الخلط بين المفهومين، تكمن نقاط الالتقاء في أن في حالة الاستشارة الشعبية كما في الاستفتاء، تتم دعوة المواطنات والمواطنين للتصويت أو الإجابة مباشرة على سؤال أو أكثر للتعبير عن إرادتهم ويكمن موطن الاختلاف في القوة الإلزامية للآليتين. 

بالنسبة للاستشارة الشعبية يتوجه أصحاب القرار للشعب قصد إبداء رأيهم حول قرارات محتملة أو بشأن موضوع معين يكون قابلا للتداول فيه. في هذا الإطار يمنع مثلا في عدة دول التشاور قصد تغيير قيم كونية متعلقة على سبيل المثال بالحقوق والحريات أو الضرائب أو الرجوع في المعاهدات الدولية. وبالتالي تهدف الاستشارة لأبداء الرأي فقط حيث يكون الخيار لصاحب المبادرة، أو صانع القرار في اعتماد الرأي من عدمه خلال أخذ القرار. 

في حالة اللجوء للاستفتاء، يُطلب من المواطنين والمواطنات الذين تتوفر فيهم صفة الناخب ممارسة سلطة اتخاذ القرار بشأن موضوع محدد وتكون نتائج التصويت ملزمة، ولا تكون هذه الالزاميّة مطلقة في كل الحالات حيث ترتبط أحيانا بشروط كنسبة المشاركة في الاستفتاء أو نسبة الموافقة على موضوع الاستفتاء أو غيرها من المعايير، وبناء على ذلك يجب أن تضع السلطة النتائج موضع التنفيذ كما هو الحال في الاستفتاء الذي نتج عنه خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. 

الاستشارة الالكترونيّة في تونس 

تعدّ الاستشارة شكلا من أشكال الدراسات السوسيولوجيّة باعتبارها تتوجّه لمجموعة من الناس بهدف معرفة رأيها من موضوع ما. هذا الشكل من الدراسات يخضع لقواعد معيّنة يجب أخذها بعين الاعتبار للوصول للهدف الأساسي من الدراسة وتجنب الذهاب في مقاربات توجيه المستجوبين. لعلّ من أبرز الأسئلة التي يجب طرحها منهجيا قبل الحديث عن مكوّنات الاستشارة هي: من نستشير؟ وعلى ماذا نستشير؟ لماذا نستشير؟ وكيف نستشير؟ 

عند الاعلان عنها، ذهب مفسرو الاستشارة لاعتبارها مجالا مفتوحا للمواطنين يسمح لهم بتقديم آرائهم في 5 محاور تهم المجال العام لكن لم يقدّم منذ ذلك الوقت أي تفسير أو توضيح لمنهجيّة هذه الدراسة التي وكما قلنا سابقا تندرج ضمن الدراسات السوسيولوجية.  

ففي الظاهر تستهدف الاستشارة كل المواطنين والمواطنات الذين يفوق سنّهم الستة عشر عاما لكن منهجيا لا يمكن الخروج باستنتاجات تمثيليّة دون أن يكون هناك أخذ بعين الاعتبار لتمثيليّة الفئات المكوّنة للمجتمع. فبالعودة للأشكال الممكنة لدراسة توجهات وآراء المجتمع نجد أن دراسة اتجاهات الرأي وسبر الآراء تعتمد أساسا على أسئلة مغلقة تمكّن من الحصول على نتائج كميّة ونسبا لاستطلاع الرأي. هذه النتائج الكميّة تفترض تحديد عيّنة تمثيليّة نضمن من خلالها تمثيل كل الشرائح والفئات المكوّنة للمستجوبين. 

في الاستشارة الالكترونيّة لم يتم الاعتماد على هذه المنهجية باعتبار أن المشاركين في الاستشارة لا يكوّنون عيّنة تمثيليّة لا على مستوى الفئات الاجتماعيّة أو الجندريّة أو المعطيات الجهويّة…  

من جهة أخرى وعلى الرّغم من أن رئيس الجمهوريّة أعلن يوم 27 جانفي 2022 أي بعد أسبوعين من انطلاق الاستشارة، عن أن 82 بالمئة من المواطنين يفضلون النظام الرئاسي، الا أن هذا الإعلان لا يتلاءم وفكرة الاستشارة التي تحتوي على جزء كيفي لا يمكن جعله كميا الا وهو مساحة التعبير الحر التي توجد في نهاية كل محور من المحاور. فلا ينبغي أن تتمحور الإستشارة حول معطيات ستؤول الى معطى كمي باعتبار الفكرة الأساسيّة في الاستشارة هي إبداء الرأي وليس استطلاعه. أي يجب أن نستشار على معطيات تخضع للتحليل الكيفي لأنها يجب أن تفتح للمواطن إمكانية الاقتراح وليس فقط الاختيار بين الإجابات. 

استنادا الى فكرتي غياب العيّنة التمثيليّة وعدم امكانيّة تطويع نتائج الاستشارة لمجرّد نسب، لا يمكن تنزيل الاستشارة الوطنيّة في خانة استطلاعات الرأي وسبر الآراء باعتبار أنها منهجيا لا تتلاءم مع هذا الشكل من الدراسات. 

فمن أبرز ما يميّز الاستشارة هو أنها دراسة كيفيّة يتم تشريك المواطنات والمواطنين عبرها لإبداء رأيهم في المواضيع التي يعتبرونها مهمّة أو تقترح عليهم من قبل السلطة ويكون ذلك عبر تشريكهم في كل مراحل الاستشارة بدأ باختيار المحاور أو على الأقل امكانيّة اقتراح إضافات في المحاور مرورا بامكانيّة إضافة أسئلة أو حلول، وصولا الى إبداء الرأي فيهم. فيمكن ألا تمثّل المحاور أو الأسئلة المقترحة مركز اهتمام للمستجوب ويمكن للمستجوب هنا اقتراح بدائل لا تكون من الأصل مدرجة ضمن الاحتمالات. 

ومن جهة أخرى، لم تعتمد الإستشارة الحالية مبدأ التشاركية، بل جعلت حتى من فضاء التعبير الحرّ الذي يلي كل محور مرتبطا به ولم تفسح المجال لتعبير حر يكون خارج السياق المفروض من المحور نفسه. يدفعنا هذا للقول بأن هذه الاستشارة لم تُأخذ بعين الاعتبار المواضيع التي قد تكون ذات الأولوية بالنسبة للمواطنين و المواطنات بل توجهت لهم لتستشيرهم على توجهات وخيارات تم تحديدها مسبقا وهو ما ينفي صفة الاستشارة عنها. 

على ماذا نستشير؟ 

في الفترة الأولى توجّه مُعدّو الاستشارة لوضع أسئلة موجّهة لولا تدارك الأمر فيما بعد بإضافة مجال التعبير الحرّ، لتتحوّل الأسئلة الى أسئلة نصف مُوجّهة الهدف منها تحصيل نسب واحصائيات وليس معرفة آراء المواطنات والمواطنين في الأمور التي يريدون الحديث عنها. 

في الصيغة الحالية يجد المستجوب نفسه مُجبرا على ابداء رأيه في مسائل ربّما لا يُعتقد أنها سبب فيما آل اليه الوضع من تدهور. فالمحاور الخمسة المقترحة أي “الشأن الاقتصادي”، “التنمية المستدامة”، “الشأن التعليمي والثقافي”، “الشأن الاجتماعي” و”جودة الحياة” على أهميّة مسمّياتها، يمكن اعتبارها توجيها للرأي العام لحلول مُسبقة يتحدّث عنها الرئيس وفريقه التفسيري منذ مدّة. 

وتجدر الإشارة إلى أن سياقات الأسئلة وأجوبتها جاءت في شكل مقترحات تتصف بالعمومية ويمكن اعتبارها توجهات عامة لسياسات عمومية مستقبلية خاصّة وأننا لا نعرف مدى توظيف نتائج الاستشارة في التغييرات اللاحقة والتي ستطال جملة من القوانين. 

من جهة ثانية لا نجد أي تفسير لأي مفهوم مُدرج ضمن الاستشارة، فعلى سبيل المثال يختار المستجوب بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني والنظام المختلط، ثم بين “الاقتراع على الأفراد” و”على القائمات” وهي مفاهيم يطول شرحها تحتوي في داخلها على عديد الفرضيات فلا يمكن القول بأن هناك نظاما مختلطا بل هناك أنظمة مختلطة توّزع فيها الأدوار بين السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذية بطرق مختلفة. كذلك الأمر بالنسبة للاقتراع الذي يُمكن أن يكون بطرق معقدة لا يمكن فهمها دون تعريفها وشرح مختلف تصنيفاتها وسياقات تطبيقها. 

إن من مخاطر عدم التفسير وتعويم المفاهيم هو توجيه المستجوبين نحو الإجابات المتداولة في خطابات الرئيس وفريق تفسيره، و يمكن إعتبار أن في ذلك استغلال للفشل الذي امتازت به الدورة النيابيّة الأخيرة خاصة والذي عاشته البلاد طيلة السنوات الفارطة عامّة للدفع بالمشاركين لتبني فكرة تعديل نظام الاقتراع الحالي وتعديل النظام السياسي وغيرها من التعديلات. 

استشارة أم آليّة لتمهيد الطريق لمشروع الرئيس 

على الرغم من أن الموقع الالكتروني للاستشارة يطلق عليها اسم الاستشارة الوطنيّة الا أن رئيس الجمهوريّة ما انفك عن تسميتها استفتاء الكترونيا، فيما ذهب بعض المختصّين لاعتبارها محاولة في استبيان الآراء. لكن بالاستناد على ما سبق وعلى منهجيات الدراسات السوسيولوجية لا يمكن أن تكون هذه العمليّة استشارة باعتبار أن رئيس الجمهوريّة استعرض بعد مشاركة 100 ألف شخص نسبا فاقت في مجملها 80 بالمئة، أي حوّلها الى كمّ، وهو ليس الهدف من الاستشارات، وحتى إذا اعتبرنا أن هناك اشكالا في المفهوم فإن هذه التجربة لا يمكن أن نعتبرها استبيانا أو سبرا باعتبار أنها لم تأخذ معطى العيّنة التمثيليّة في منهجيتها، ويمكن أن نقول إنها غير ممثّلة فقط بالنظر للتفاوت الكبير في التمثيليّة بين الجنسين من المشاركين. 

وان سلمنا بهذا التمشي للاستشارة فإنها تفتقد لشرط علمي وتقني هام ألا وهو تحديد العيّنة وبناؤها الذي يقتضي دراسة الكليّة الاجتماعيّة وتشريحها لتحديد المتغيّرات من جنس وعمر وشرائح اجتماعيّة وجهات… 

بانتفاء هذه الخاصيّات لم يعد من المُمكن تنزيل الاستشارة إلّا في سياق ما بعد 25 جويلية الذي توجّه فيه رئيس الجمهوريّة الى الخيارات الفرديّة والتخلّي عن مبدأي التشاركيّة والشفافيّة، حيث لم يتم الإعلان عن الجهة التي أعدّت الأسئلة ومن هي الجهة التي ستألّف بين نتائج الاستشارة ولا نعلم أيضا كيف ستؤثّر هذه النتائج على الخيارات التي ستليها. وهذا ما يجعلنا نقول بأن هذه الآليّة وان كانت نظريا تبحث عن تشريك الشعب في اختيار مصيره إلّا أنها باطنيّا تخدم تصورات فرديّة ولن يكون هدفها في الأقصى إلّا تبرير ما يُريد أن يذهب إليه رئيس الجمهوريّة من «تعديلات «عبر خلق المبرّرات والدواعي الشكليّة لفرض مشروعه. 

« الشعب لا يريد » المشاركة في الاستشارة 

لم تصل نسبة المشاركة في الاستشارة الـ5 بالمائة من مجموع المواطنين البالغين من العمر فوق 16 سنة كما نصّت عليه شروط المشاركة. وبالرغم من أن رئيس الجمهوريّة حاول تبرير ذلك عبر بلاغ صدر عن رئاسة الجمهوريّة بتاريخ 22 فيفري 2022 اعتبر خلاله أن  المواطنين والمواطنات يتعرّضون لصعوبات بعضها ناتج عن جملة من الاختيارات الفنية التي يجب تذليلها، وبعضها مقصود من الذين يريدون تكميم الأفواه وإجهاض هذه التجربة الأولى من نوعها في تونس. إلا أن هذه الأسباب لا يمكن أن يعتدّ بها باعتبار أن النسبة ضعيفة جدّا وتواصل هذا الضعف حتى بعد هذا البلاغ وبعد اللقاء الذي جمع رئيس الجمهوريّة بالسيّد نزار بن ناجي، وزير تكنولوجيات الاتصال في نفس التاريخ، للبحث عن سُبل إنجاح الاستشارة. 

وقد تابعت منظّمة البوصلة نسق المشاركة في الاستشارة الوطنيّة يوما بيوم منذ انطلاقها لتقديم نسب المشاركة وتحليلها. وكانت هذه النتائج جدّ ضعيفة الى حدود قرب نهاية الاستشارة بالرغم من أن النسب تطوّرت قليلا في الأيام الأخيرة مقارنة بالأيام الأولى وهو ما  قد يفسّر بتكثيف الحملات التشجيعية على المشاركة عبر وسائل الاعلام العموميّة والخاصة وتكثيف الخيمات الدعائيّة في الأحياء. 

ضعف مشاركة المرأة في الاستشارة 

من اجمالي المشاركين الذي بلغ عددهم 415 ألف مشارك بلغ عدد النساء المشاركين 122 ألفا، ويظهر هذا الرقم مدى ضعف تمثيلية المرأة باعتبار أن نسبة النساء والرجال في المجتمع التونسي تقريبا متساوية (51,2% نساء و 48,8% رجال) في حين أن الرجال استأثروا بالنسبة الأعلى من المشاركة التي بلغت حوالي 70,7% من مجمل المشاركين في حين لم تتجاوز مشاركة النساء الثلث بنسبة 29,3%. هذا الفرق الشاسع سينعكس قطعا على النتائج التي ستكون غير تمثيليّة أو في أحسن الحالات معتلّة، باعتبار انعدام التمثيل النسبي لكلا الجنسين. 

نسب هزيلة في اغلب الجهات 

تراوحت النسب المشاركة في الجهات بين 2,76% و 8,87% وبالرغم من الارتفاع السريع الذي شهدته نسب المشاركة في الأسبوعين الأخيرين إلّا أن هذه الأرقام بقيت ضعيفة في مجمل الجهات وخاصة في المدن ذات الكثافة السكانيّة الكبيرة التي لم تتجاوز فيها نسبة المشاركة عتبة الـ5%، لتكون النسبة الوطنيّة للمشاركة في الاستشارة، الى حدود اصدار هذه الورقة، في حدود 4,85% من نسبة المواطنين والمواطنات البالغين من العمر أكثر من 16 سنة. 

الشباب أيضا لم يُقبل على الاستشارة 

أكد رئيس الجمهورية في العديد من المرات التي خاطب فيها العموم على أنه لن يتحاورمع من يعتبرهم خونة ومتسلقين، وأن الحوار سيكون بالأساس مع الشباب. 

بالرجوع لأسئلة الاستشارة الوطنية، لاحظنا غياب العديد من المواضيع الحارقة بالنسبة للشباب ككثرة القوانين الزجرية التي قد تطوعها السلطات حسب الرغبة والطلب، القانون عدد 52، البيع والشراء الإلكتروني… وهو ما قد يفسّر ضعف المشاركة بالنسبة للشريحة العمرية الأقل من 30 سنة التي بلغت 20,5% من نسبة المشاركين أي 7,69% من مجموع الشباب التونسي البالغ من العمر بين 16 و29 سنة. 

الانترنات لم يكن عائقا أمام المشاركة في الاستشارة 

بالرغم من التغطية الواسعة لشبكات الأنترنات في جل الجهات لم يساهم ذلك في تعزيز نسب المشاركين في الاستشارة، فتقنية الجيل الثالث تغطي في أغلب الجهات فوق الـ90% وتصل أحيانا للـ100% وهو ما يجعل غالبيّة المواطنات والمواطنين قادرين على الربط مع شبكة الأنترنات في أغلبية المناطق. نفس الشيء في علاقة بدور الشباب حيث بلغ عددها في موفى سنة 2019، 352 دار شباب حسب النشرية الاحصائيّة السنويّة لتونس 2015-2019 وبذلك يمكن القول بأن العزوف لم يكن مردّه امكانيات الوصول للاستشارة بقدر ما كان عدم اهتمام بها. 

الاستشارة الوطنية وحماية المعطيات الشخصية 

أثار إطلاق المنصة الإلكترونية الخاصة بالاستشارة الوطنية العديد من المخاوف في ما يتعلق بحماية المعطيات الشخصية، خاصة و أن شبح اختراقها أو تسريب معطيات المستعملين مازال يُطارد الأذهانا بالنظر لما حدث مع منصة التلاقيح إفاكس. 

وبالاستناد على القانون الأساسي المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، طلبت رئاسة الحكومة بتاريخ 20 ديسمبر 2021 من الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية إبداء الرأي حول الجوانب التقنية والفنية المتعلقة بمنصة الاستشارة الوطنية لمعرفة ما إذا كانت الأخيرة متطابقة مع القانون التونسي والمعايير الدولية.  

وقد أصدرت الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية في بيان بتاريخ 18 جانفي 2022 رأيها في هذا الصدد، حيث لا تعتبر الهيئة أن المنصة الخاصة بالاستشارة الوطنية تعالج معطيات شخصية. وبالرغم من ضرورة إدخال رقم بطاقة التعريف الوطنية حتى يتسنى للمستعمل الولوج للمنصة، أكد رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية أن جميع المعطيات يتم فسخها بمجرد حصول المستعمل على كلمة عبور خاصه به. وبالتالي لم يعد المستعمل قابلا للتعرف عليه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وبذلك ينتفي الطابع الشخصي للمعطيات. 

ورغم كل ما سبق ذكره يبقى من الواجب تكرار عمليات الرقابة نظرا لما يشكله تجميع معطيات المستعملين والمستعملات من خطر على معطياتهم الشخصية وحتى سلامتهم الجسدية وذلك لحساسية الأسئلة المطروحة صلب المنصة. حيث تمنع أغلب التشاريع الحامية للمعطيات الشخصية معالجة المعطيات المتعلقة بالتوجهات السياسية والنقابية على سبيل المثال إلا بترخيص خاص من الجهات التي أناط القانون بعهدتها هذا الاختصاص. ويبقى هنا التساؤل حول من طوّر المنصّة وكيف تم اختياره وكيف كانت شروط هذه الاختيار؟ 

لم يبقى للرئيس إلا الرهان على الاستفتاء 

كل النسب التي قدّمناها سابقا وإذا أضفنا لها فكرتي انعدام المنهجيّة وغياب فكرة التشريك الفعلي يقودوننا للقول بأنه لم يعد من الممكن الحديث على تمثيلية تعبر عن وزن شعبي  لهذه الاستشارة باعتبار أنها لن تقدّم فكرة واضحة عن أولويات المواطنين والمواطنات من ناحية ولن تكون إلا تعلّة يستخدمها رئيس الجمهوريّة لإرساء ركائز لنظام حدّده قبل التفكير حتى في إجراء هذه الاستشارة.  في هذه الحالة لم يبق لرئيس الجمهوريّة إلا المراهنة على كثافة مشاركة المواطنات والمواطنين في الاستفتاء لتحصيل مشروعيّة لما يقترحه من تغييرات تشمل النظام السياسي وبقيّة التعديلات القانونية والسياسية. 

]]>
https://www.albawsala.com/ar/publications/articles/20224977/feed 1