26 جويلية 2016

تمّ يوم الجمعة 22 جويلية 2016 الاستماع لمنظّمة البوصلة ضمن استماعات لجنة التشريع العامّ لمختلف الأطراف حول مشروع قانون المصالحة المالية والاقتصادية والذي تتمّ مناقشته داخل اللّجنة منذ 29 جوان 2016.

تمّ الاستماع لمنظّمة البوصلة صحبة منظّمتين من المجتمع المدني في تونس، وهما على التوالي أنا يقظ و‏الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية. وأجمعت الأطراف الثلاثة على موقف قاطع ضدّ مشروع القانون.

وقد تقدّمت البوصلة للّجنة المعنية بطلب توصيتها بسحب مشروع القانون من قبل جهة المبادرة، وعلى اعتبار أنّ سحب مشروع القانون من لجنة التشريع العامّ ليس ممكنا إجرائيّا فقد طلبت من اللّجنة تقديم توصية ضمن تقريرها تقضي بعدم التصويت لفائدة مشروع قانون المصالحة حين عرضه على الجلسة العامّة.

كما تقدّمت البوصلة بإبداء موقفها الذي يشمل مختلف الجوانب حول ضرورة عدم تمرير مشروع القانون مبيّنة المؤيّدات القانونية لهذا الموقف.

أ‌) موقف البوصلة:

عمدت البوصلة في مقدّمة توصيتها داخل جلسة الاستماع إلى التذكير بمهمة المنظّمة وهي دعم المسار الديمقراطي بالبلاد من خلال دعم الحكم الرشيد والعمل على وضع المواطن في صلب عملية أخذ القرار. كما عمدت إلى التذكير بالدور الذي لعبته كمنظّمة في متابعة صياغة ومناقشة كافّة أبواب وفصول الدستور داخل المجلس التأسيسي منذ انتخابه.

أوّلا، لأنّ البوصلة لم ولن تسمح بخيانة قيم الثورة وتبييض الفساد، ولأنّ البوصلة تؤمن أنّ مجلس نوّاب الشعب هو سلطة مستقلّة تمثّل الشعب ودورها يتمثّل في الحرص على التطبيق التشريعي للدستور -وهو ما لم تحرص جهة المبادرة التشريعية المعنية عليه- تضع البوصلة ثقتها في نوّاب الشعب في الوقوف أمام مشروع يخون روح الدستور ومبادئه.  وتحمّل المجلس مسؤولية القطع مع ماضي الظلم والحيف والفساد، وهي مسؤولية تترجم في مواجهة كلّ مشروع قانون يمرّ تحت قبّة المجلس وداخل كلّ لجنة من لجانه التشريعية.

ثانيا، بالنسبة إلى مسار العدالة الانتقالية، فإنّ في مناقشة مشروع قانون المصالحة عزلا للفساد المالي عن باقي انتهاكات حقوق الانسان. الفساد المالي ساهم في انعدام التنمية بعديد المناطق وتأخّرها بمناطق أخرى، كما ساهم في انعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، فكيف لا يتم اعتباره انتهاكاً فادحاً لحقّ الإنسان في تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون؟ ولا يمكن لنوّاب الشعب أن يتوانوا أمام انتهاكات حقوق الانسان.

ثالثا، يدّعي مشروع القانون تحسين الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد. وفي هذا مغالطة للرأي العامّ. لا يمكن للاقتصاد أن ينتعش على أسس فاسدة. فلا المستثمر التونسي أو الأجنبي سيُقبل على الاستثمار في مناخ مالي واقتصادي يبرّر الفساد ويبيّضه ويسامح الفاسدين. وللنوّاب مسؤولية أمام الرهانات الاقتصادية كذلك.

رابعا، يدّعي مشروع القانون إنصاف موظّفين اضطرّوا للانخراط في منظومة الفساد قبل الثورة. لكن هل ينصف مشروع القانون الموظفين الذين لم ينخرطوا في منظومة الفساد؟ كلّ موظّف ومواطن تونسي تعرّض لضغوطات في المنظومة السابقة وكان هناك من رفض الانصياع وانخرط في مقاومة الفساد. مجلس نوّاب الشعب منتخب لإنصاف من قالوا لا لمنظومة الفساد وليس العكس. لا يمكن لنوّاب الشعب أن يقلّلوا من نضال الإداريين الشرفاء وسط منظومة كانت تشجع على الفساد واستغلال النفوذ.

خامسا، يدّعي مشروع القانون طي صفحة الماضي. لكن صفحة بيضاء للأجيال القادمة التي تحمل في ذاكرتها هضم حقّها في تحقيق مكاسبها بالإرادة والعمل تحتاج إلى ضمانات، ولا تشمل هذه الضمانات أنّ نتعامل برهبة وتعنّت مع الماضي كما  ليس على هذا الماضي أن يلاحق مستقبل الأجيال القادمة. على نوّاب الشعب أن يعيدوا التفكير في هذه الضمانات.

أخيرا وليس آخرا، لطالما ساندت البوصلة مجلس نوّاب الشعب ودوره التشريعي كما الرقابي وعملت على توفير الآليات القانونية الممكنة من خلال مقترحات تخصّ عدّة مشاريع قوانين سابقة. لكن هذه المرّة تتقدّم البوصلة للاستماع بـتوصيتها بإسقاط مشروع القانون وعدم المصادقة عليه، وتأمل أن تكون المرّة الأخيرة. وذلك لمسؤولية هذا المجلس التي تتجسّد في كافّة النقاط السابقة.

ب‌) المؤيّدات القانونية:

يخرق مشروع قانون المصالحة[1] الدستور على مستوى التوطئة كجزء لا يتجزأ من الدستور وعلى مستوى متن الدستور:

من جهة خرق مشروع القانون لمبادئ التوطئة:

أوّلا، خرق مبدأ القطع مع الفساد[2]. تنصّ الفقرة الأولى من التوطئة على مبدأ القطع مع الظلم والحيف والفساد وهي الغاية التي يعارضها مشروع القانون في صيغته الأصلية والمعدّلة.

ثانيا، خرق مبدأ النظام الجمهوري التشاركي[3]. لم يتمّ تشريك الهيئات الرسميّة المعنية بموضوع العدالة الانتقالية أو مكافحة الفساد كهيئة الحقيقة والكرامة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الوقتية المشرفة على القضاء العدلي. كما لم يتمّ تشريك المجتمع المدني وكلّ الأطراف المعنيّة عند صياغة هذا المشروع.

ثالثا، خرق مبدأ الحكم الرشيد. سبق وأشرنا أنّ من ركائز عمل البوصلة الدفاع على مقوّمات الحكم الرشيد: الشفافية والمساءلة. مبدأ الحكم الرشيد يضمن كشف الانتهاكات المتعلّقة بالفساد (الشفافية) وتحميل المسؤولية لمرتكبي الانتهاكات (المساءلة).

ومن جهة خرق مشروع القانون لفصول من الدستور:

أوّلا، خرق الفصل 10 والذي تلتزم فيه الدولة بمنع الفساد ومقاومة التهرّب الجبائي.

  • الاخلال بالتزام الدولة بمنع الفساد: يخلّ مشروع القانون بالتزام الدولة في القطع مع الفساد بما أنه يشرّع التكتّم على الانتهاكات التي طالت المال العامّ ويسمح بإفلات المذنبين من المسائلة. كما لا تمكّن الأحكام الخاصّة التي سنّها من تفكيك منظومة الفساد وبالتالي فهي غير قادرة على ضمان عدم تكراره.
  • الاخلال بالالتزام حول مقاومة التهرّب الجبائي: يتضارب العفو في مجالات الصرف مع الفصل 10 الذي تلتزم فيه الدولة بوضع الآليات الكفيلة بضمان مقاومة التهرّب والغش الجبائيين. من المفترض أن يخصّ المشرّع العفو في مجالات الصرف بقانون منفرد ولا يندرج تحت طائلة العدالة الإنتقالية.

ثانيا، خرق الفصل 148 المطّة 9 والذي تلتزم فيه الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية.

  • لا يحدّد مشروع القانون المدّة التي تغطّيها أعمال لجنة المصالحة، مع العلم أنّ منظومة العدالة الانتقالية والمدّة المحدّدة لها تحظى بمكانة دستورية ولا يمكن أن يشمل مشروع هذا القانون انتهاكات ارتكبت بعد دخول قانون العدالة الانتقالية حيّز النفاذ.
  • التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية لا يقتصر على ركن المصالحة بل هو عبارة على مسار مترابط ومتكامل من كشف للحقيقة والمساءلة والمحاسبة وجبر الضرر وردّ الاعتبار وإصلاح المؤسسات. فقدان المراحل التي تمهّد وتدعم المصالحة تفرغ هذه الأخيرة من فحواها. لتتحوّل من غاية سامية تخدم العدالة الانتقالية إلى وسيلة لخدمة مصالح ضيّقة لا تعود بالنفع على المجموعة الوطنية.

بالنسبة لأوجه تعدّي مشروع القانون على مسار العدالة الانتقالية[4]، فإنّه:

أوّلا، لا يضمن كشف الحقيقة. لا يتمّ إطلاع العموم على قرارات المصالحة وغياب العلنية كعنصر أساسي للمصالحة. الفصل 15 ينصّ: “لا يجوز استعمال المعلومات المصرح بها أو المتحصّل عليها في إطار تطبيق هذا القانون لغير الأغراض التي سنّ من أجلها”.

ثانيا، لا يمكّن من إصلاح المؤسسات. العفو على الموظفين العموميين وأشباههم حسب ما ينصّ عليه الفصل 2 من مشروع القانون سيؤدي إلى إلغاء عمل “لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات” من تقديم توصيات بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حقّ كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية إذا تبين أنّه قام بعمل عن قصد نتج عنه مساندة أو مساعدة للأشخاص الخاضعين لأحكام المرسوم عدد 54 لسنة 0255 في الاستيلاء على المال العامّ ( الفصل 43 من قانون العدالة الانتقالية[5]).  إنّ إجراء المصالحة وفقا لمشروع القانون، لا ينجرّ عنه أيّ تأثير على المنصب والمسار المهني للموظف مهما كانت رتبته الذي يعترف بمشاركته في أعمال فساد مالي واختلاس أموال عامة فهو بالتالي يتعارض مع مقوّم من مقومات العدالة الانتقالية ألا وهو إصلاح المؤسسات.

ثالثا، لا يضمن مشروع القانون المحاسبة والمسائلة كمقوّم من مقوّمات العدالة الانتقالية. إذ يشرّع الفصلان 7 و 8 (الذي تمّ نسخهم في قانون المالية 2016 عبر الفصل 64) للعفو في مادة الصرف الذي اعتبرته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين غير دستوري، لا فقط لأنه يعتبر من فرسان الميزانية (cavaliers budgétaires) بل لأنه يتعارض مع مبدأ القطع مع الفساد ولم يقع تعديل هذه الفصول ضمن مقترحات الجهة المبادرة.

من حقّ جهة المبادرة طرح مقترحها، لكن مع وجوب تشريك كلّ الأطراف في صياغة القانون واحترام مبادئ الدستور وكذلك مجمل فصوله ومضامينه. ونظرا للمؤيّدات السابق ذكرها جميعا فإنّ مشروع القانون لا ينتهك الدستور شكلا ومضونا فقط بل يتعمّد استبعاد كشف الحقيقة تماما ويقف حاجزا أمام إصلاح المؤسسات. وبالتالي مشروع قانون المصالحة لا يخرق الدستور ويعرقل مسار العدالة الانتقالية فقط وإنّما يخلق منفذا قانونيا لتواصل الفساد.


[1] مشروع قانون أساسي عدد 2015/49 يتعلّق بإجراءات خاصّة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي،الصيغة الأصلية
تمّ تمكين جمعية البوصلة من نسخة من التعديلات التي قدّمتها جهة المبادرة  لمشروع القانون.
[2] قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في القضيّة عدد 04/2015 بتاريخ 22 ديسمبر 2015 المتعلّق بمشروع قانون المالية لسنة 2016 الرائد الرسمي للجمهورية التونسية 25 ديسمبر 2015عدد 103 صفحة 3.
[3] المرجع نفسه.
[4] المفوضية الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون (لجنة البندقية)، رأي مؤقت حول الجوانب المؤسساتيّة لمشروع قانون حول الإجراءات الخاصّة بالمصالحة في المجالات المالية والاقتصادية في تونس التي صادقت عليها لجنة البندقية في جلستها العامة رقم 104، البندقية، 23 – 24 أكتوبر 2015 .
[5] قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر2013 يتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها.